قطر تعمق من أزمتها بخياراتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

أزمة قطر ليست سحابة صيف سرعان ما تنقشع كما تصور البعض، فهي لم تندلع بفعل خلافات سياسية عادية مع الدول الأربع، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، التي قاطعتها سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، بل بما هو أخطر كثيراً من ذلك، وهو ما يمس الأمن القومي لهذه الدول والدور القطري في إضعافه، فهناك خلافات لا تسمح بوساطات لمقاربتها، بل تتطلب إزالة أسبابها وإبداء حسن النوايا في ذلك.

الدول الخليجية الثلاث الأكثر قرباً لقطر جغرافياً، السعودية والإمارات والبحرين، تعاني منذ ما يزيد على العقدين من الزمن من مشاعر الإحباط بالسياسات المقلقة التي تنتهجها قطر، والتي لا تتفق مع مبدأ الأمن الجماعي الذي صيغ في ضوءه ميثاق مجلس التعاون الخليجي واستراتيجيته الأمنية بشقيها، الداخلي من خلال الاتفاقية الأمنية، والخارجي الذي يوجب التنسيق في السياسات الدفاعية في إطار قوات درع الجزيرة.

نضجت الأزمة القطرية في سياقات الأطر السياسية والأمنية التي صنعتها الإرادات الدولية لمواجهة التصاعد في العمليات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، وسارعت في تفجيرها القمم العربية- الإسلامية- الأميركية التي عقدت في الرياض مؤخراً.

قطر هي المتضرر، فعلى الرغم من الخسائر المادية التي تتكبدها قطاعات الصناعة والبناء والنقل والخسائر المالية الكبيرة في أسواق البورصة وتراجع سعر الصرف للريال القطري، وغير ذلك الكثير مما هو ملموس وآنيّ، إلا أن الخسائر الكبيرة الحقيقية غير منظوره لأنها ستبقى لأمد طويل تلحق أضراراً بالأمن القومي القطري واستقلالية قرارات الدولة القطرية، وبما سعت قطر لبنائه من علاقات مع المجتمع الدولي.

التعامل مع الإرهابيين كونهم أفراداً يكون عادة منوطاً بالأجهزة الأمنية التي تعمد إلى اعتقالهم بغية تفكيك المنظمات الإرهابية التي ينتمون إليها أو بإردائهم قتلى عند العجز عن ذلك، إلا أن الموضوع يختلف كلياً حين يكون الإرهاب ممثلاً بسياسات دولة تعمل على توظيف بعض وسائل إعلامها لزعزعة استقرار دول أخرى أو إقامة علاقات تنسيق وتعاون مع منظمات أو أحزاب أو مليشيات مصنفة إرهابياً أو تجعل من أراضيها ملجأ لبعض المطلوبين أمنياً بتهمة الإرهاب في بلدانهم أو حين تمول صفقات تجهيز السلاح لصالح مليشيات تقلق أمن دول أخرى على بعد آلاف الكيلومترات أو حين تنسق مع دول أخرى مهام تدريبهم وتأمين وصولهم إلى أهدافهم.

أنشطة كهذه لا تصنف كونها قضايا أمنية رغم أنها كذلك من منظور معين، بل قضايا سياسية على درجة كبيرة من الخطورة تضع هذه الدولة في موضع الاستهداف والمسؤولية أمام الأسرة الدولية، وهو ما وضعت قطر نفسها فيه بخيارها.

لا يمكن اختزال الإرهاب بعمليات تفجير أو دهس تنفذ في حشد سكاني أو تخريب ممتلكات عامة أو بث الرعب في صفوف المجتمع، بل ينبغي تفهمه في الأطر الاستراتيجية الأوسع، الإرهاب نهج له رؤية تكمن خلفها أهداف سياسية متنوعة وتخدم مصالح مؤسسات أو دول على مديات مختلفة.

وكأي نهج حين يوضع موضع التنفيذ تدرس وتؤمن متطلبات نجاحه، التخطيط والتمويل والتنفيذ والتقويم، ولكل منها تفصيلاتها ولوجستياتها التي تشمل، ولا تقتصر على إقامة علاقات مع آخرين دول أو منظمات.

الدول الصغيرة تكون عادة أشد قلقاً من غيرها على أمنها القومي وأكثر حرصاً على إدامة علاقات متينة مع جوارها، فأمنها يكمن هناك، إلا أن ما نلاحظه في سلوك قطر هو عكس ذلك فالسياسة النزقة التي انتهجتها في زعزعة الاستقرار في دول جوارها قد ألحقت أضراراً خطرة بأمنها بالدرجة الأولى.

قطر في موقف ضعيف للغاية بعد رفضها سيناريو البقاء ضمن الأسرة الخليجية، الذي قدمته الدول الأربع، فهي لا تمتلك أوراقاً حقيقية للدفاع عن نفسها ونفي ما اتهمت به، فالاحتماء بتركيا أو إيران خيار مضر في غير محله فهو يعمق من أزمتها لأنها غير مهددة عسكرياً.

كما أن إطالتها أمد الأزمة بالمراوغات المستمرة وسعيها لنقلها من الأطر الإقليمية إلى الأطر الدولية قد تحول لغير صالحها، إذ ليس لديها ما تراهن عليه، فالزيارات التي قام بها وزراء خارجية دول أوروبية عدة، والتي اختتمتها الزيارات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي للتعرف على أبعاد الأزمة قد أنضجت القناعات لدى هؤلاء بمدى تورطها بوحول الإرهاب، وأنضجت في ضوء ذلك موقفاً من أزمتها ليصدر في قرار حاسم على لسان الرئيس الأميركي طالباً منها الكف عن دعم الإرهاب ومهدداً إياها بنقل قاعدة «العديد» إلى أراضي دولة أخرى، وهو طلب ليس بقدرة قطر تجاهله.

الدور الذي سعت إليه قطر على مستوى العالم العربي قد وصل خاتمته، لأنه أكبر كثيراً من حجمها الجغرافي والسكاني والسياسي، فأمنها يكمن في عودتها إلى حجمها الطبيعي.

Email