تعرضت القدس لخطط استيطانية من كل نوع تحت مسمى «القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية»، الذي اختلقه الاحتلال الإسرائيلي ويفتقد إلى الشرعية والقانونية وفق كل القرارات الدولية، وتحركت هذه الخطط في ثلاث دوائر، دائرة داخلية تتضمن توسيع القدس الشرقية من 6 كيلومترات مربعة إلى 73 كيلومتراً من أراضي الضفة الغربية ضمن حدود بلدية القدس التوسعية، ودائرة أخرى وسطى عرفت باسم «القدس الكبرى» وتشمل 330 كيلومتراً من الضفة الغربية، والدائرة الخارجية وتشمل 665 كيلومتراً وتعرف بالقدس «المتروبوليتانية» وارتفع عدد المستوطنين في الدائرة الأولى من الصفر عام 1967 إلى 80 ألف مستوطن، وفي الدوائر الأخرى إلى نحو 60 ألف مستوطن، وهذا الاستيطان الكثيف في القدس والتوسع الاستعماري في محيطها يمثل خطة تهويد كاملة، بل وخطة عنصرية تحفل بالعديد من أوجه التمييز واللا مساواة القائمة على الرؤية العنصرية الإسرائيلية.
من أهم مظاهر هذه الخطة العنصرية فرض قيود مشددة على رخص البناء للفلسطينيين، وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، وتعديل قوانين الجنسية والإقامة، بحيث يحظر جمع شمل العائلات، وحرمان آلاف الفلسطينيين من الإقامة والسماح للسلطات الإسرائيلية بالتدخل في حياة الفلسطينيين الخاصة وفرض رقابة عليهم أقرب إلى التجسس لمعرفة من يقيم فعلاً في المدينة المقدسة ومن لا يقيم؛ لتطبيق القواعد الجديدة التي يقرها ما عرف بقانون «مركز الحياة» الذي صدر في عام 1995، وينص صراحة على ضرورة أن يقدم راغبو الإقامة الدائمة وحاملو البطاقات الدائمة ما يثبت دورياً أنهم يقيمون ضمن حدود بلدية القدس وأن يقدموا من الأوراق ما يثبت ذلك عملياً. (انظر: دعاء حمودة وآخرين ما وراء الحيز المكاني، دراسات فلسطينية العدد 108-2017).
والهدف من وراء تطبيق هذه الاستراتيجيات الاستيطانية ومحاورها المختلفة وكذلك تعديلات قوانين الجنسية والإقامة وتشديد شروط تجديدها والفحص الدوري للمستندات بالإضافة إلى هدم البيوت ومصادرات الأراضي الفلسطينية، هو بلا شك حمل المقدسيين على الهجرة والإقامة في مدن أخرى في الضفة الغربية أو في محيط القدس، أو الإقامة في إحياء عشوائية ومكتظة بالسكان وذلك لتحقيق أكثرية يهودية وإضفاء الطابع اليهودي على المدينة وطمس معالمها العربية والفلسطينية وتغييب طابع المدينة التاريخي والإسلامي والمسيحي.
وتستثمر هذه الخطط الإسرائيلية مخصصات مالية كبيرة باعتبارها هدفاً قومياً إسرائيلياً، تجمع عليه كل التكتلات السياسية والأحزاب الدينية والعلمانية والقومية في إسرائيل، كما ترتكز على العنف البنيوي والوجود الطاغي للمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في حياة الفلسطينيين والمقدسيين، وبالإضافة إلى ذلك فإن بناء جدار الفصل العنصري الإسرائيلي الذي يحدد خط سير البناء فيه منذ عام 2002 بناءً على التصور الإسرائيلي لشكل الحل النهائي مع الفلسطينيين، وعلى ضوء توفر خصوبة الأراضي ومصادر المياه، والمواقع الاستراتيجية والكتل الاستيطانية الإسرائيلية الكبرى، حيث باتت مدينة القدس التي أصبحت داخل الجدار معزولة عن بقية الضفة الغربية ولا يتم الدخول إليها إلا عبر بوابات التفتيش وموافقات إسرائيلية على الدخول بشروط خاصة.
وقد حالت المشروعات الاستيطانية دون التواصل بين أحياء القدس الشرقية، وبينها وبين الضفة الغربية، وأصبحت القدس الشرقية تكاد تكون على هامش المجتمع الفلسطيني، بعد أن كانت مركزه الروحي والثقافي والسياسي والاقتصادي، وكذلك يهدد الجدار العنصري آلاف الفلسطينيين بسحب هوياتهم بسبب وجودهم خارج الجدار، بل تشير بعض التقارير من القدس إلى أن الجدار العنصري قسم أحد المنازل إلى جزأين الأول يقع في حدود القدس والثاني في الضفة الغربية، غرف النوم في القدس بينما الصالة في الضفة الغربية، وبطبيعة الحال لا يقف الأمر عند حدود هذا التقسيم الشاذ، وإنما يمتد إلى حياة هؤلاء المواطنين وصعوبات تتعلق بتقديم الخدمات وإثبات الإقامة والحصول على بطاقتها والمعاناة الإدارية وأعباء اللجوء إلى القضاء الذي انتهى في هذه الحالة إلى مغادرة العائلة للقدس وفقاً للحكم الذي أصدره.
تندرج كل هذه العمليات الاستيطانية والقانونية والأمنية في إطار تحقيق سياسة «الإزاحة الديموغرافية» للفلسطينيين المقدسيين؛ بهدف تفريغ القدس من سكانها وحشرهم في إطار «جيتوات» معزولة عن المدينة ومكتظة بالسكان، وتنفيذ مخطط التهويد وتغييب الطابع العربي للمدينة، وتفكيك البنية الثقافية والتقاليد الاجتماعية ومرجعيات الحماية التقليدية لدى المجتمع الفلسطيني المقدسي كالعشيرة والعائلة الممتدة، بل وتفكيك الأسر والعائلات الفلسطينية على ضوء صعوبة الحصول على الإقامة لمتزوجين من أبناء الضفة الغربية من أهالي القدس وصعوبة جمع شمل هذه العائلات في إطار قوانين الجنسية والإقامة المعدلة.
بالرغم من أن قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بناءً على التوصية التي قدمتها اللجنة المكلفة بدراسة الوضع في فلسطين، لم يكن قراراً أخلاقياً أو عادلاً على أي نحو من الأنحاء لأنه أقر حقوقاً لا يمتلكها لمنظمات وعصابات صهيونية لا تستحقها، فإن هذا القرار الذي رفضه العرب في حينه، قد خصص للمدينة المقدسة وضعاً خاصاً دولياً تدار بواسطته شؤون المدينة المقدسة وكذلك مآثرها ومزاراتها الدينية والتاريخية بمشاركة ممثلين عن الطوائف المختلفة التي تعيش في المدينة، وبمقتضى هذا النظام الدولي، تظل المدينة المقدسة مستقلة ولا تخضع لا للدولة العربية ولا للدولة اليهودية اللتين تحدث عنهما هذا القرار، وإن كانت إسرائيل قد قبلت هذا القرار فإن موافقتها عليه لم تكن في الواقع سوى موافقة تكتيكية ومؤقتة للحصول على وثيقة دولية وقانونية يرتكز إليه وجودها، وما يؤكد ذلك هو سيطرة إسرائيل في نهاية الحرب التي نشبت بينها وبين الدول العربية على ما يفوق نسبة 54 في المئة التي خصصها القرار المذكور للدولة اليهودية، حيث احتلت وسيطرت بالقوة على ما يقرب من 78 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، كما أن إسرائيل والقوات اليهودية المشكلة من «البلماخ» و«الهجاناه» استولت على ما يقرب من 84.13 في المئة من القدس بحدودها البلدية والانتدابية والتي أصبحت تعرف فيما بعد بالقدس الغربية، واستمر هذا الوضع طيلة الفترة من 1949 إلى عام 1967، عندما احتلت إسرائيل القدس الشرقية أي ذلك الجزء المتبقي من المدينة المقدسة في حوزة الجانب العربي والفلسطيني.