نتائج صفقة مميتة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عقد السادات صفقته المميتة مع «الإخوان» الإرهابيين وأطلق لهم العنان يعيثون في أرض مصر فساداً، ويعيدونها إلى ما كانت عليه في عصور الظلام التي خضعنا فيها للغزاة والطغاة، وفقدنا فيها تاريخنا وثقافتنا وإنسانيتنا، لا عقل، ولا علم، ولا حرية، وإنما كل قول وكل فعل بفتوى يتصدى لها العالم والجاهل والهاوي المحترف، ويرجعون جميعاً فيها للكتب الصفراء والنصوص الميتة التي تتحكم في حياتنا الآن، فتجعل المسلمين قطعاناً سائمة تسمع فقط وتطيع، وتجعل المسيحيين كفاراً أو في أحسن الأحوال ذميين أي أسرى عفا عنهم الغازي المنتصر ووصفهم وهم أهل البلاد في حمايته! وتجعل المرأة دمية ناقصة عقل ودين.. وتلك هي الثقافة التي حلت محل ثقافة أحمد لطفي السيد، والدكتور هيكل، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وقاسم أمين، وهدى شعراوي، ودرية شفيق، وسلامة موسى.

وتلك هي الثقافة التي أنطقت سالم عبد الجليل بما نطق به، وتلك هي الثقافة التي حملت الإخوان الإرهابيين إلى السلطة، فإن كانوا قد سقطوا فثقافتهم لا تزال متربعة في كل مؤسساتنا لأن الطوابير السرية والعلنية التي تحرسها وترعاها كثيرة منتشرة مدعومة من الداخل والخارج، ولا تزال صاحبة الكلمة في الخطاب الديني الذي نطالب ومعنا رئيس الجمهورية بتجديده فلا يستجيب لنا الذين يريدون أن يجعلوا الدين سلطة، ويجعلوا التفكير فيه احتكاراً لا يمارسه غيرهم.

هذا يعني أننا لا نعيش في دولة وطنية تفصل بين الدين والسياسة، وإنما نعيش في هذا الخلط الذي صار فيه الدين هوية للدولة وأساساً للتمييز بين المواطنين.

هي ثقافة اقتحمت الدستور وفرضت نفسها على مواده، وعلى القوانين التي اعتبرت التفكير الحر ازدراء الدين، وعلى البرلمان الذي أصدر هذه القوانين، وعلى رئيس جامعة الأزهر الذي أفتى بأن أحد الكتاب ملحد، وعلى المحجبات اللائي هاجمن السافرات في المترو وقصصن شعورهن، وهي بالطبع الثقافة التي شجعت من شجعتهم من المصريين على الانضمام لداعش، وهي التي طردت المسيحيين المصريين من سيناء وغير سيناء وفجّرت كنائسهم وهم يؤدون شعائرهم الدينية في القاهرة والإسكندرية وطنطا وغيرها.

لهذا لا ألوم شخصاً بعينه يغرد خارج السرب لأنه لا يعبر عن ثقافة سائدة، ولأنه لم يخترع ما قاله ولم يأت فيه بشيء من عنده، وإنما تعلمه مثل الملايين التي تعلمت في الأزهر، وحصل فيه على أعلى الشهادات، وتدرج في وظائف الدولة الدينية حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى في مقعد الوزير، ثم تجاوز المناصب الحكومية وأصبح نجماً تلفزيونياً تنصب صوره في الشوارع ويتسابق على التعاقد معه أصحاب القنوات ورجال الأعمال.

هذا السيد يستطيع بكل هذه المؤهلات أن يقول إن المسيحية عقيدة فاسدة، وإن المسيحيين كفار (!) فإن راجعه أحد على استحياء أعلن هو بكل ثقة استعداده للوقوف أمام هيئة كبار العلماء ليثبت لهم أن ما قاله هو ما تعلمه منهم، فإن «أثبتوا أني خاطئ سأخلع عمامتي ولن أتكلم في الدين مرة أخرى»!

ونحن لا نستطيع أن نعارضه في أن ما قاله هو ما تعلمه، لكننا نستطيع أن نعارضه في زعمه أن ما قاله هو الإسلام.

فإذا وجد في بعض الآيات القرآنية وبعض الأخبار ما يستند إليه فلأنه تجاهل آيات أخرى، ولأنه تعلم ألا يرى من الآية إلا ظاهر حروفها، وألا يستند في فهمها لأسباب نزولها التي يتحرر منها معناها حين يتقدم الزمن وتنشأ ظروف وأطوار جديدة تكشف في هذه الآيات عن معان أكثر ثباتاً نفهمها بالرجوع إلى مقاصد الإسلام ومثله العليا، وما مر بالمسلمين من تجارب، وما عرفه البشر من حقائق وما استخلصوه من مبادئ وقوانين تقوم عليها حياتهم في هذه العصور الحديثة، ويتحقق بها ما يستطيعون تحقيقه من أحلامهم ومطالبهم باختصار، لا هذا الشخص ولا الذين علموه فهموا الإسلام كما فهمه مسلمون آخرون، وعرفوا أنه مبادئ وغايات ومقاصد يجب أن نجعلها دليلنا ومرجعنا في فهم النصوص، وإلا فالنص ليس معنى واحداً وإنما هو حمّال أوجه كما كان يقول علي بن أبي طالب، ونحن نختار من هذه الأوجه ما يتفق مع المبدأ ويوصل إلى الغاية.

فإذا كانت المبادئ والقيم مرجعنا فلن نرى، وخاصة في هذا العصر الذي نعيش فيه، تناقضاً جوهرياً بين الإسلام وغيره من الديانات التي تقوم على ما يقوم عليه كما نرى في الآية الثانية والستين من سورة «البقرة»: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، وبهذا الفهم تكون كل الديانات صحيحة وإن تعددت لأنها كلها طرق إلى الله لا يعرفها ولا يحكم على أي منها إلا من سار فيها. لأننا في الدين لا نرجع لقلوبنا التي تطمئن لما ورثته وتربت عليه. الإسلام طريق المسلمين إلى الله، والمسيحية، واليهودية، والمجوسية، والبوذية وغيرها طرق أخرى.

وهذا ما عبّر عنه محيي الدين بن عربي هذا المسلم العظيم الذي جمع بين التصوف والحكمة والشعر، وحدثنا عن قلبه فجانس بين القلب والقبول، وجعل الإيمان معادلاً للسماحة والرحابة والحب والانفتاح على كل الديانات وكل المذاهب وكل البشر وكل الصور:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعى لغزلان، ودير لرهبان

وبيت لأوثان، وكعبة طائف

وألواح توراة، ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه. فالحب ديني وإيماني!

أسأل نفسي: هل مرت هذه الأبيات على هذا الشيخ الدكتور النجم التلفزيوني؟ لا أستطيع أن أقول: لا! فهل فهمها؟ لا أستطيع أن أقول: نعم!

Email