كلام عن الفتاوى الدينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الفتوى إحدى أهم مجالات الخطاب الديني، وقد لاقت عناية قديماً وحديثاً، حيث أكد العلماء على عظم شأنها، وتحريم التساهل فيها، وقاموا بتأصيلها، وإحكام ضوابطها، نظراً لأثرها في دين الناس ودنياهم.

العناية بهذا الباب وتنظيمه، من الأهمية بمكان، خاصة في العصر الحديث، ومن صور ذلك، مأسسة الفتوى تحت رعاية الدولة وإشرافها، حيث يعتبر العمل المؤسسي من سمات العصر الحاضر، وهو يساعد على تنظيم الفتوى وتطويرها، ويجعلها في إطار جهود جماعية متخصصة، وقد خطت دولة الإمارات خطوات كبيرة في هذا المجال.

ومن أحدث مبادراتها، إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، بهدف إيجاد مرجعية واحدة ومعتمدة للإفتاء، وتوحيدها وضبطها وتنظيمها في الدولة، وبيان سماحة الإسلام، وحفظ تماسك المجتمع وعقيدته، ومواكبة المسائل المستجدة في المجتمع، وغير ذلك من المهام.

ولهذه المبادرة أهمية كبيرة من جوانب عدة، منها: التطور الهائل في مجال التقنية ووسائل الاتصال في العصر الحديث، الذي فتح الباب على مصراعيه للفتاوى الدينية أشكالاً وألواناً، من متخصصين وغير متخصصين، من موثوقين ومشبوهين وأحزاب وتيارات وتنظيمات، كل حزب ينسج الفتاوى وفق أفكاره ومصالحه.

وفي طيات ذلك فتاوى متطرفة وتكفيرية وإرهابية ومتحجرة وانحلالية تشوّه الدين، ولا تراعي قواعد الاستنباط الصحيح، ولا أبعاد الزمان والمكان، ولا ضروريات المصالح والمقاصد، وتعتبر هذه الفتاوى إحدى أنواع التغذية الفكرية، ووسائل التأثير السلبي للتنظيمات المتطرفة لغزو العقول، ما يمثل تهديداً كبيراً للمجتمعات والدول.

كما تعتبر العولمة تحدياً عصرياً، يؤكد أهمية ضبط الفتوى وتنظيمها، فإن من آثار العولمة، كسر خصوصيات الزمان والمكان، وانتشار الفتاوى العابرة للحدود الزمانية والمكانية، ومن المعلوم أن هناك مسائل قائمة على العرف الحاضر للبلد، أي العرف المعمول به في زمان ومكان الفتوى، فلا يجوز الإفتاء فيها بأعراف بلدان أخرى، أو بأعراف قديمة في المجتمع، حلت محلها أعراف حديثة.

وذلك بإجماع العلماء، قال القرافي: «تحرم الفتوى بغير العادة الحاضرة»، وقال: «تحرم الفتيا لأهل بلد بغير عادتهم، ومن أفتى بغير ذلك كان خارقاً للإجماع»، والمسائل الفقهية التي ترجع إلى العرف كثيرة، قال السيوطي: «اعلم أن اعتبار العادة والعرف في الفقه في مسائل لا تُعدُّ كثرة»، ووجود المؤسسات الوطنية التي تُعنى بالفتوى واعتمادها مرجعاً لأهل البلد، تحل هذه الإشكالية، وتضع لكل أهل بلد الفتاوى المناسبة الموافقة للشرع ولمصلحة وعرف المجتمع، وهذه إحدى مظاهر التجديد الضروري في باب الفتوى.

وينطبق هذا الأمر على الفتاوى الكامنة في بطون الكتب، فلا ينبغي أخذها ونشرها من دون نظر في موافقتها للشرع ومناسبتها للواقع، فقد تكون الفتوى مبنية على عرف سابق، ولا تناسب العرف الحاضر، فلا يجوز العمل بها، قال القرافي: «تحرم الفتيا بالأولى لأجل تغير العادة».

من جوانب أهمية العمل المؤسسي في الإفتاء، مواكبة مستجدات العصر ونوازله، وفق أطر الاجتهاد الجماعي الصحيح، فقد تنزل نوازل معاصرة ليس لها دليل شرعي بعينها، ولا يوجد نص فقهي بحكمها، فيجتهد فيها المفتون، لاستخراج الحكم الصحيح المناسب لها شرعاً وواقعاً.

ووجود العمل المؤسسي المتقن في الفتوى، يعين على مراعاة أسسها، وأبعادها الوطنية والمجتمعية والأسرية وغيرها، والتي تقوم كلها على أصل عظيم وأساس متين، وهو مراعاة المصالح ودفع المفاسد، والنظر في المآلات والنتائج، مع سلامتها شرعاً، فالشريعة كما يقول ابن القيم «مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، فكل مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل».

قد تكون الفتوى صحيحة علمياً، ولكن لها نتائج سلبية واقعياً، فلا يُفتى بها، إذ للفتوى مقاييس عدة، شرعية وعقلية وواقعية، حتى تكون صائبة نافعة، تحقق المصلحة للوطن والمجتمع والأسرة والفرد، قال الشاطبي: «اعرض مسألتك على الشريعة، فإنْ صحَّت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله.

فإن لم تؤدِّ إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، وإلا فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية»، وكم من أبواب شر تفتح بسبب فتاوى لا يتم فيها مراعاة المآلات ولا النظر في النتائج.

كما يناط بمؤسسات الإفتاء تعزيز الوسطية في المجتمع، ونشر محاسن الإسلام ويسره وسماحته، وهذه من أهم وظائف المفتي، قال الشاطبي: «المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط في ما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، وهذا هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة».

كذلك حماية المجتمع مما يخل بالوسطية، والتصدي له وقايةً وعلاجاً، فقد تستجد في الساحة الفكرية فتاوى سلبية من قبل تنظيمات متطرفة تهدد الفرد والمجتمع، تحتاج إلى مكافحة بالفتاوى العلمية الصحيحة، ما يستدعي بالضرورة من المفتي معرفة ما يلزم من الأخطار الفكرية، ليكون عارفاً مميزاً، قادراً على مواجهتها وتكفكيها، وحماية المجتمع من شرها وضررها.

لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فيجب على المفتي نفسه أولاً أن يتحلى بهذه القيم، فيكون ذا أهلية، ليحسن تصور المسائل على وجهها، وينقل أحكامها بالصورة الصحيحة، ويتحلى بالأمانة والاعتدال، فإن المفتي إذا لم يكن أميناً، أو كان صاحب فكر مشبوه، فسيضر الناس، ويحرف الشرع، ويخون الأمانة، وخيانة الفتوى من أعظم الخيانات.

 

 

Email