عرب النكسة وما بعدها

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم مرور خمسين عاماً على حرب 5 يونيو، فإنّ بعض العرب يُرجِع سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى الهزيمة العسكرية التي حدثت في العام 1967.

بينما الأمر الصحيح هو أنّ الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ العام 1948، ولقد كانت حرب 73 درساً لأميركا وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 67، والقوّة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والصداقة الخاصة مع حكومات، هي عناصر لم تكن كافية لضمان المصالح الأميركية في المنطقة، ممّا دفع بأميركا إلى إعادة حساباتها في ظلّ إدارة هنري كسينجر للسياسة الأميركية الخارجية.

فإذا بالمنطقة العربية تنتقل من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وقرار حظر النفط وظهور القوّة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية، إذا بها تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال، إلى الحرب العراقية - الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة، وتعرّض بيروت عام 1982 -كأوّل عاصمة عربية- للاحتلال الإسرائيلي، وإخراج قيادة وقوّات منظّمة التحرير منها.

لولا هذه السياسات الخاطئة في «السلم والحرب» من قبل قيادتيْ مصر والعراق آنذاك لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير وهدر وتدمير لإمكاناتٍ عربية كثيرة، وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخّل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.

لقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكلٍ عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي.

كذلك اتّسمت تلك المرحلة بتصاعد التيّار الإسلامي السياسي، دون وضوحٍ في رؤيته وفكره وبرنامج عمله السياسي البديل، وفي مناخات تشجّع على العنف المسلّح للتغيير الداخلي وعلى فرزٍ وانقسامات داخل المجتمع الواحد، كما ظهر في تفاعلات الحروب الأهلية العربية طيلة السنوات الماضية.

كذلك تراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترَك، كما وقعت «منظمة التحرير الفلسطينية» ومعها الحكومات العربية كلّها في مأزق «عملية السلام» مع إسرائيل: عجز عن الحرب معها.. وتعجيز إسرائيلي في شروط تحقيق السلام العادل، في ظلّ استمرار الاحتلال وتصاعد الاستيطان. فلم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية عربية، «الخارج» منها براء.

ها هي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ويدفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

قيل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وعقب توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية، أنّ «لا حربَ من دون مصر ولا سلامَ من دون سوريا». وقد ثبت بعد أكثر من أربعة عقودٍ مرّت على هذا القول، صحّة خلاصته، حيث لم تحدث منذ ذاك الوقت حربٌ نظامية عربية إسرائيلية، بمعنى حرب جيوش تقليدية على الجبهات، رغم حدوث حروبٍ عديدة خلال هذه العقود، قامت بها إسرائيل ضدّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين.

أيضاً، لم تحدث تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي رغم المعاهدات التي حدثت بين إسرائيل ومصر والأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينية.

إنّ الغضب الشديد يعتمل الآن في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ أينما وُجِد على ما هو عليه الحال العربي عموماً. وهذا أمرٌ جيّدٌ ومطلوب. غضبٌ عارم هو أيضاً على مهزلة مجلس الأمن والأمم المتحدة وغابة المجتمع الدولي، حيث لم يتم إجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية ولهضبة الجولان السورية رغم مرور نصف قرن من الزمن على ذلك.

وبمقدار ما يتألّم العرب اليوم من وجع سياسات حصلت منذ توقيع المعاهدة المصرية مع إسرائيل، ومن تهميشٍ حصل لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الحنين إلى حقبةٍ ما زالت تذكرها أجيال عربية كثيرة، وهي حقبة جمال عبد الناصر التي تميّزت بحالة معاكسة تماماً لحال المنطقة العربية الآن.

لكنْ مهما كانت تداعيات الصراع مع إسرائيل الآن سيّئة وبالغة التعقيد، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، في تاريخ أكثر من بلدٍ عربيٍّ، استطاعت أن تكسر الأغلال وأن تثور ضدّ الظلم الداخلي أو الاحتلال الأجنبي، وهي قادرة على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما حافظت على وحدة الشعب والوطن، وأدركت بحقّ من هو الصديق ومن هو العدوّ.

 

 

Email