عقيدة الرئيس السياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

حفلت نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية في جولتها الثانية، بدروس بالغة الأهمية، لا ينبغي أن تمر دون تأمل واستخلاص دلالات هذه التجربة الفريدة، ومن المؤكد أن هذه الدروس سيتم التطرق لها مراراً وتكراراً في فرنسا وفى خارج فرنسا، لأنها، وباختصار، تكتسب دلالات تتجاوز الحدود الفرنسية، ومن المحتمل أن تؤثر في مسار الدول الأوروبية الأخرى.

أول هذه الدروس وأهمها، هو نهاية الاستقطاب الأيديولوجي السياسي بين اليمين واليسار الفرنسي، وهى النهاية التي جاءت متدرجة عبر العقود السابقة، وكانت محصلة تآكل الأيديولوجيات اليمينية الليبرالية والأيديولوجيات اليسارية الاشتراكية وانتهائها، إلا نوع من التوافق الأيديولوجي الصامت، أو ما أسماه بعض الكتاب الفرنسيين «الأيديولوجيا الرخوة» أو الناعمة، والتي هي مزيج من الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي والقيم اليسارية والأخلاقية، وتتميز هذه الأيديولوجيا بانخفاض قوتها التعبوية والابتعاد عن الحماس والولع القديم الذي صاحب الانقسام بين اليمين واليسار.

فإذا كان اليمين الفرنسي قد واجه أزمة هوية مع صعود اليمين المتطرف الفرنسي، فإن اليسار واجه أزمة بعد تدهور الحزب الشيوعي والانقسام في صفوفه، بين التوجهات النيو ليبرالية وتلك التي تتمسك بالقيم والأهداف اليسارية، والتي ترتب عليها صعود اليسار المتطرف، وحصوله في انتخابات الجولة الأولى على عدد كبير من أصوات الناخبين الفرنسيين.

افتقد اليمين واليسار، كل على طريقته، القدرة على بلورة وصياغة مشروع مجتمعي شامل قادر على تشخيص وعلاج الانقسامات والتشققات على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، الناجمة عن العولمة وتبنى السياسات النيو ليبرالية،.

والحال أن هذا القصور أفسح المجال لانتقال القوى السياسية الهامشية إلى مركز الحياة السياسية الفرنسية، سواء من أقصى اليمين أو أقصى اليسار، وأفسح الطريق للرئيس الشاب أن يخوض هذه الانتخابات، دون الاستناد إلى آلة حزبية بيروقراطية تدعمه في غضون أقل من عامين.

في إطار هذه الأيديولوجيا الرخوة أو الناعمة، لم تعد الاختلافات والخلافات بين اليمين واليسار الفرنسي حول طبيعة المشكلات ومنظور رؤيتها، بل انحصرت في الوسائل التي يمكن اعتمادها لحل هذه المشكلات أو إدارتها، ويعكس ذلك بدرجة ما، الإقرار بوجود تلك المشكلات.

وضرورة حلها ومواجهتها، وأن الاختلاف يكمن في الوسائل والأساليب التقنية والفنية لعلاجها، فالهجرة والإرهاب والاندماج واتساع الفوارق بين الفقراء والأغنياء والبطالة والعمل ونظم الحماية الاجتماعية، تمثل عينة للمشكلات المطلوب معالجتها بأساليب مختلفة.

وقد وصل حجم الاتفاق حول طبيعة المشكلات، إلى حد أن أحد السياسيين الفرنسيين قد وصف خطاب جون مارى لوبان الأب الروحي لليمين المتطرف، بأنه «يطرح مشكلات حقيقية، ولكنه يقترح حلولاً خاطئة»، والمعنى الظاهر، هو أن كافة القوى السياسية تختلف حول الوسائل والحلول، ولكن ضمناً أو صراحة، تتوخى تحقيق نفس الغايات والأهداف.

قد يكون من المبكر الحديث عن «عقيدة ماكرونية»، يمكنها أن تملأ هذا الفراغ، وتمثل نموذجاً لهذا النمط الأيديولوجي الجديد الناعم والرخو، والبعيد عن الاستقطابات الأيديولوجية السابقة، فحتى الآن، برنامج الرئيس ليس واضحاً بما فيه الكفاية.

كما أن انتسابه لمؤسسات المال والأعمال، لا يكفى للحكم على تصرفاته وسياساته المستقبلية، وباستثناء تأكيده على الانتماء الأوروبي وإصلاح مؤسساته وقيامه بزيارة ألمانيا كأول زيارة خارجية له، لتأكيد الدور الألماني والفرنسي القيادي في الحفاظ على البناء الأوروبي، وكذلك فهمه للهوية الفرنسية في إطارها الأوروبي والعالمي الواسع، لم تتحدد بعد خطوط سياساته الداخلية.

والمنظور الذي يمكنه أن يعالج من خلاله تلك الانقسامات والتشققات الداخلية، وكذلك يمكن إدراج الإشارة التي بعث بها خلال حملته الانتخابية بأنه ليبرالي اقتصادياً، واشتراكي اجتماعياً، ضمن المؤشرات الجنينية لرؤيته السياسية والاجتماعية.

يذكر صعود ماكرون إلى الرئاسة الفرنسية بأيديولوجية الطريق الثالث، التي طورها تونى بلير في المملكة المتحدة البريطانية، واقترب منها بيل كلينتون الرئيس الأميركي الأسبق، غير أن سجل هذا الطريق لم يكن مبشراً، رغم زعمه الحياد بين اليمين واليسار، وكان أكثر عنفاً، ونزعته الحربية والعدوانية التي تبدت في الحرب على العراق، وحصاره وتجويع مواطنيه، فاقت السياسات اليمينية التي سبقته.

أما الدرس الثاني المهم في صعود الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة الفرنسية، فلا يتعلق بمضمون سياساته أو عقيدته الجديدة، بل في صعوده ذاته، وإذا نحينا جانباً بعض العوامل التي ساعدت في صعوده، خاصة رغبة قطاع كبير من الفرنسيين في قطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف والعنصري، بصرف النظر عن تأييدهم لماكرون، فإنه يبقى مع ذلك أن صعوده مشحون بدلالات أخرى مهمة، في غضون أقل من عامين، تمكن هذا المرشح، ومن خلال حركة «إلى الإمام»، من كسب سباق الرئاسة، دون أن يستند إلى جهاز بيروقراطي حزبي، أو آلة دعائية حزبية منظمة.

كما تمكن من تمويل حملته الانتخابية، من المؤكد أنه حظي بدعم معنوي وسياسي من حلفاء فرنسا الأوروبيين الذين مثلت لهم هذه الانتخابات طوق النجاة من المصير الغامض الذي ينتظر الاتحاد الأوروبي، في حالة فوز مرشحة اليمين المتطرف، لكنه حتى الآن لم ترشح معلومات مؤكدة حول الدعم المالي المباشر.

وأن هذا الدعم يبقى حتى إشعار آخر في إطار الافتراض، المؤكد أنه حصل على دعم العديد من الشخصيات من اليمين واليسار، ووجه أولئك وهؤلاء نداءات أقرب إلى الاستغاثة بالناخبين لإنقاذ فرنسا من قبضة اليمين العنصري المتطرف.

كما أن ابتعاده المعلن عن اليمين واليسار، وتموضعه في الوسط، مكنه من تجنب الأحكام السلبية التي استحوذت على الناخبين إزاء مرشحي اليمين واليسار، وجنبته سهام النقد والانتقاد بالانخراط في النخبة السياسية المأزومة يميناً أو يساراً،.

حيث أدرك مبكراً، وبذكاء، رغبة الفرنسيين في الانفلات من سطوة الأحزاب التي اختصرت برامجها وممارساتها في السيطرة على قيادة الأجهزة الحزبية، باعتبارها أداة الوصول إلى السلطة.

مؤهلات الرئيس الجديد المالية والمعرفية والفلسفية، فضلاً عن قدراته السياسية التي ظهرت في تشكيلة الحكومة، قد تنبئ بقدرته على بلورة عقيدة ماكرونية جديدة، يتمكن بها من إنقاذ بلاده في إطار العولمة والاندماج الأوروبي، سواء كانت حلقة جديدة في الطريق الثالث، أم بداية لطريق جديد، أو كانت نهاية للأيديولوجيا، أم بداية للأيديولوجيا الناعمة.

 

Email