الأزهر بين التجديد والتكفير

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان رائعاً هذا العناق المؤثر بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وبين بابا الفاتيكان فرانسيس الثاني، أثناء زيارته التاريخية للقاهرة، ولو كنا - كعرب ومسلمين - نملك الأدوات الإعلامية لتقديم أنفسنا للعالم، لكانت هذه اللحظة عنواناً ثابتاً لأسابيع وشهور في حملة لتصحيح الصورة التي تترك الإسلام في العالم العربي أسيراً بين الدواعش والإخوان.

الإخوان أساس لكل حركات التطرف ولكل دعوات الكراهية، ولكل عصابات الإرهاب التي بدأوها بالجهاز السري الذي بدأ عصر الاغتيالات والأحزمة الناسفة باسم الدين الحنيف في مصر قبل أكثر من سبعين عاماً، وما زال له مكان في صميم عمليات الإرهاب باسم الجماعة نفسها، أو بواسطة الجماعات التي تفرعت منها وانتهت إليها، من القاعدة إلى النصرة، إلى الدواعش وأخواتها.

كان اللقاء بين الإمام الأكبر، وبين بابا الفاتيكان في القاهرة، ومع ختام مؤتمر الحوار بين الأديان الذي تبناه ونظمه الأزهر الشريف، عنواناً للطريق الآخر، أو الطريق الصحيح الذي حفظ للأزهر الشريف مكانته كعنوان للإسلام الوسطي، بعيداً عن دعوات التطرف والتعصب والكراهية بين البشر.

وكان العنصر الثالث في اللقاء هو البابا تواضروس، بابا الكنيسة المرقسية، الذي جسد أمرين أساسيين: أولهما هو السعي الناجح لإتمام المصالحة التاريخية بين الكنيسة القبطية المصرية، وبين كنيسة روما، بعد صراع طويل ومعقد بين الكنيستين، وثانيهما هو تأكيد عمق العلاقة الأخوية بين الأزهر والكنيسة المصرية التي عكست متانة الوحدة الوطنية في مصر، والتي يعتبرها الجميع الأهم بالنسبة للنضال الوطني في مصر، والتجسيد الحقيقي لقدرتها على ضرب كل المؤامرات وتجاوز كل التحديات.

ولأهمية ذلك، علينا أن ننظر ملياً إلى ما تم طرحه قبل الزيارة من أن هدفاً أساسياً لها هو الإعلان عن تضامن كنيسة روما مع المسيحيين في الشرق الأوسط ضد كل ما يلاقونه من ظروف مأساوية في دول المنطقة.

أكمل البابا تواضروس أضلاع مثلث المحبة والتسامح والعيش المشترك مع الإمام الأكبر وبابا الفاتيكان، ورغم الآلام، فقد كان مهماً للغاية التأكيد أن المستهدف من العدوان الآثم على بعض الكنائس المصرية، هو عدوان يستهدف شعب مصر بأكمله، وليس الأقباط فقط، وأن مصر كلها - بالتالي - تقف ضد هذا الإرهاب الذي حاربته بمفردها حين كانت بعض الدول الكبرى تتحالف معه أو تستخدمه لأغراضها.

وأنها استطاعت - رغم كل التحديات - أن تقدم للعالم كله نموذجاً في الوحدة الوطنية استطاع إسقاط حكم الفاشية الإخوانية واستطاع الصمود في وجه كل الضغوط وضد كل داعمي الإرهاب من القوى العالمية والإقليمية وحتى - للأسف الشديد - الأطراف العربية التي ما زالت تضع ثرواتها وإعلامها وسياساتها، في خدمة مخططات تستهدف العروبة وصحيح الإسلام.

ولم يكن الأمر سهلاً لتحافظ مصر على هذا النموذج في الوحدة الوطنية، ولا ليحافظ الأزهر الشريف على اعتدال ديني فريد وسط عالم من التطرف، ولا لتحافظ الكنيسة الوطنية المصرية على دورها التاريخي في رفض أي محاولات لجرها لنزاعات طائفية رفضتها على الدوام.

كان على الأزهر الشريف أن يقاوم جماعات التطرف والإرهاب، وأن ينضم للتحالف الذي أسقط الإخوان والذي يطارد الدواعش، وكان عليه أيضاً أن يتصدى لدعوات التكفير، وأن يتحمل ضغوطاً من مختلف الاتجاهات لكي يكون طرفاً في الصراعات القائمة، وفي الوقت نفسه كان عليه أن يتحمل نتاج سنوات من الجمود منذ اجتهادات إمامه الأكبر، الشيخ شلتوت رحمه الله.

في الأيام الأخيرة أعطى الأزهر الشريف مثالاً على جديته في محاربة نهج التكفير. قرر الإمام الأكبر عزل رئيس جامعة الأزهر بعد أن أطلق تصريحات بتكفير الباحث الإسلامي «إسلام البحيري». لم يكن الأمر يتعلق بالأشخاص بل بالمبدأ.

وهو ما لم يستوعبه آخرون مثل الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، الذي تحول إلى صاحب برنامج تلفزيوني أطلق من خلاله الفتوى بأن كل المصريين كفار، فالأقباط كفار لديه ولدى كل المصريين، كما يعتقد، والمسلمون كفار لدى المسيحيين وغيرهم من غير المسلمين، ولا أظن أن الرجل يدري أنه بذلك يحول المجتمع كله إلى ساحة تكفير يرفضها كل مسلم.. بل كل عاقل.

والقصة قديمة ومستهلكة، وردود الفعل أثبتت أن المصريين جميعاً،المسلمين قبل الأقباط، اعتبروا ذلك إهانة لهم. لكن ما حدث يشير بوضوح إلى آثار نصف قرن على الأقل من الجمود في الفكر الديني، ومن تصاعد الفكر المنحاز لنشر الكراهية والتعصب، ومن حاجة الأزهر الشريف لكل الدعم لكي يستطيع - بقيادته المستنيرة - أن يقود مسيرة إصلاح ضرورية لا يمكن أن تتم إلا في ظل تجديد شامل يكون الجانب الثقافي فيه أساسياً.

تقدم مصر للعالم كله نموذجاً في الوحدة الوطنية لكن هذا لا يعني أن التحديات انتهت، أو أن محاولات إثارة الفتنة لن تتكرر، أو أن حاجتنا لتجديد الفكر ما زالت هي التحدي الأكبر الذي يواجهنا.

 

 

Email