صراع على هوية فرنسا

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ تأسيس الجمهورية الخامسة الفرنسية في عام 1958 وحتى عشية الانتخابات الرئاسية الفرنسية في جولتها الثانية، كان السباق الرئاسي الفرنسي يدور بين التيارين الرئيسيين في الحياة السياسية الفرنسية وهما اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي واللذان تبادلا مرشحيهما الفائزين في هذا السباق موقع الرئاسة طيلة هذه العقود.

كان الفقيه الدستوري الفرنسي المعروف لدارسي العلوم السياسية في مصر موريس دوفرجيه قد وصف هذا المناخ السياسي الذي كان سائداً في ظل الجمهورية الخامسة بالاستقطاب الحزبي أو الثنائية الحزبية التي سيطرت على المسرح السياسي في هذه الآونة وحكمت تفاعلاتها السياسية والمؤسسية ومخرجاتها وتوازناتها.

اللحظة الثانية في انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2002 عندما لم يتمكن مرشح الاشتراكيين ليونيل جوسبان من العبور إلى الجولة الثانية في هذه الانتخابات وخرج من المنافسة بطريقة غير متوقعة، ومنذ عام 2002 وحتى عام 2017 تعرض اليمين الليبرالي للمصير ذاته عندما لم يتمكن مرشحه فيون من البقاء في المواجهة في الجولة الثانية لهذه الانتخابات.

وتفسير انهيار هذه الثنائية الحزبية يعود إلى عوامل كثيرة من بينها بل وربما يكون على رأسها ذلك السباق الذي دخل فيه التياران الرئيسيان لتبني السياسات النيو ليبرالية بدرجات متفاوتة.

ظاهرة إيمانويل ماكرون تجيء في سياق محدد، حيث أدرك بحكم سنه وخبرته التي تشكلت في عالم المال والأعمال والمؤسسة السياسية حاجة الفرنسيين إلى التجديد ويأسهم من الأحزاب التقليدية اليمينية واليسارية وافتقادهم الثقة في النخبة السياسية التقليدية.

بالإضافة إلى ذلك فإن الاستقطاب الجديد في انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2017 وباقتصاره على مرشحة اليمين المتطرف والعنصري ومرشح الوسط ساعد ماكرون في حصد الأصوات الساخطة على صعود اليمين المتطرف.

من معالم هذا الاستقطاب الجديد الناشئ في الحياة السياسية الفرنسية يبرز على نحو خاص، صراع الهويات، بين هذين التيارين اللذين خاضا انتخابات الجولة الثانية، تيار اليمين العنصري المتطرف الممثل في لوبان وبين تيار الوسط الذي يمثل ماكرون.

وكل من هذين التيارين يتبنى مفهوماً للهوية الفرنسية مختلفاً ومتضارباً في منطلقاته وسياساته للهوية الفرنسية في الظروف الراهنة التي تمر بها فرنسا وأوروبا، وهذا الصراع على الهوية ليس حصراً أو قاصراً على فرنسا وحدها وإنما يمتد بطول القارة الأوروبية وعرضها بل والولايات المتحدة الأميركية.

يتمحور مفهوم مرشحة اليمين القومي المتطرف للهوية الفرنسية حول «فرنسا أولاً» والأولوية الوطنية الفرنسية في العمل والتأمين الصحي وفرنسا المنعزلة والمكتفية بذاتها بعيداً عن أوروبا وبيروقراطية المفوضية الأوروبية في بروكسل.

وكذلك تأجيج الخوف من الهجرة وبالذات الإسلامية والمغاربية على هوية فرنسا المسيحية الكاثوليكية وقيمها وثقافتها والانسحاب من اتفاقية «شينغن» ومنطقة اليورو ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، مفهوم الهوية الذي دافع عن مرشحة اليمين المتطرف يعود بعجلة الزمن إلى الوراء إلى فرنسا النقية المغلقة على قيمها وثقافتها واقتصادها القومي.

أما مرشح الوسط الفائز في هذه الانتخابات فيرى أن هوية فرنسا تتعزز وتقوى باندماجها في الهوية الأوروبية وبانفتاحها على الثقافات الأخرى ومن خلال التكامل الأوروبي وإصلاح المؤسسات الأوروبية وأن الهجرة والإرهاب ليس بالضرورة مرتبطين بالإسلام بقدر ما هما مرتبطان بفشل سياسات الاندماج وسياسات الهجرة والجمود والعجز عن ابتكار الحلول.

وأخيراً وليس آخراً فإن الصراع على الهوية يخفي ويقنع اختلافات عميقة خاصة بآثار العولمة السلبية المتمثلة في البطالة واهتزاز مكانة العمل والنظم الاجتماعية الصحية والتأمينية وسيطرة رؤوس المال وتفاقم التشققات الاجتماعية والثقافية.

ومن ثم فإن الصراع على الهوية في هذه الانتخابات يمثل عنواناً مختصراً للخلاف حول فهم وتفسير وتشخيص وحل كل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن السياسات النيو ليبرالية المعولمة.

والتحدي الراهن يتمثل في قدرة الرئيس الجديد على رسم خريطة واضحة لمواجهة التحدي وسوف تتوقف نتيجة هذه المواجهة على طبيعة التحالفات الجديدة والتوازنات التي أسفرت عنها هذه النتائج والانتخابات التشريعية التي تبنتها ومدى تطابق التصريحات مع الممارسة العملية.

 

Email