لماذا نريد خطاباً دينياً جديداً؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين نسعى لتجديد الخطاب الديني نسعى لتحقيق المصالحة بين العقائد والقيم الدينية والأخلاقية التي نؤمن بها وبين قوانين التطور التي عرفنا أنها تفرض نفسها في كل المجتمعات البشرية، وبعبارة مختصرة تجديد الخطاب الديني مدخل ضروري أو شرط لتجديد الحياة.

الحياة لا تجدد نفسها إلا بالأحياء الذين يعيشونها ويمارسون فيها ما يمارسونه من تجارب ويواجهون ما يواجهونه من تحديات يجتهدون في التغلب عليها ويستخلصون منها الدروس ويستفيدون بها فيما يلاقونه في مستقبلهم من تجارب وتحديات جديدة يتغلبون عليها ويخرجون من عصر إلى عصر يعرفون فيه أنفسهم أكثر ويعرفون ما يحيط بهم ويؤثر في حياتهم إيجاباً وسلبا من حقائق الوجود وظواهر الطبيعة وتحولات المجتمع.

وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بقدر كبير من الفضول والرغبة في المعرفة والاكتشاف، والقدرة على متابعة الظواهر وعلى الربط بين الأسباب والنتائج، والإيمان بأن حياة الإنسان في كل مجالاتها تتأثر بما يجد فيها وتتطور به وتتغير، تستوي في ذلك حياتنا العملية وحياتنا العقلية. نظمنا السياسية وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية.

نظمنا السياسية في العصور الوسطى وطاقاتنا وخبراتنا فيها وأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية كانت تربة خصبة للعبودية والجهل والخرافة والطغيان، وقد تطورت حياتنا في هذه العصور الحديثة ونمت طاقاتنا وتغيرت أوضاعنا فلم يعد مفهوماً ولا منطقياً ولا مقبولاً ولا ممكناً أن تتكرر في حياتنا، وأن تقوم من جديد هذه، وهذه النظم البائدة وهذه القوانين، وهذه الممارسات البربرية التي عرفتها العصور الوسطى، اللهم إلا في عروض مسرحية تقدمها الآن جماعات الإسلام السياسي.

وكما أن قوانين التطور تفرض نفسها في السياسة فتحل الدول الوطنية محل الدول الدينية، ويتحرر العبيد، وتحصل المرأة على حقوقها، وينتصر العقل على الخرافة والعلم على الجهل، وتحل الديمقراطية محل الطغيان.

فقوانين التطور تفرض نفسها أيضاً في الدين فتكشف عما في الخطاب الديني التقليدي من صور الوهم والخوف من المجهول، والعجز عن مسايرة الحياة، وتفسح المجال لخطاب ديني جديد يتصالح مع هذه القوانين ولا يتعارض معها، وإلا أصبحت حياتنا كما عهدناها خلال القرنين الأخيرين.

نحن ممزقون بين واقع عملي يتغير دون أن يتطور ـ ومعنى هذه العبارة أن تغيره فعل لا ثقافة ـ وتدين شكلي لا روح فيه، لأن الروح لا تكون إلا في الجسد الحي.

لكي يصبح التدين حياة فاعلة مؤثرة فلابد من خطاب ديني جديد يتواصل مع حياتنا الجديدة ويتجاوب معها، ويؤثر فيها ويتأثر بها، وهو عندنا حال غائب.

رسوم وشعارات تغطي الواقع ولا تسكنه ولا تحركه ولا تكشف عما فيه من ثغرات ولا تدفعه لمراجعة نفسه وإصلاح عيوبه، وفي هذا المناخ تتراجع سلطة الضمير ويضعف الوازع الأخلاقي ويصبح الخطاب الديني مفارقاً للدين ومعارضاً له، فضلاً عن مفارقته لقوانين التطور ومعارضته لها.

وهذا أمر طبيعي. فالإنسان هو صانع التطور، والإنسان هو الغاية التي تقصدها الشرائع الدينية حين تهديه للحق والخير وتساعده على أن يتطور ويتقدم والفرق بين قوانين التطور والشرائع الدينية أن هذه علم منزل، أما الأولى فمعرفة بالعقل الذي منحنا الله إياه.

أريد أن أقول إن تجديد الخطاب الديني ليس فقط حاجة حيوية، وليس فقط شرطاً للتقدم، وإنما هو إلى جانب هذا واجب أخلاقي وأصل من أصول الدين.

حين ننادي في هذه الأيام بفصل الدين عن الدولة نكون أقرب إلى الدين من الذين يخلطون بينهما، لأن الفصل يحرر الدين من أسر السلطة، ويرده إلى بيته الدافئ وهو الإنسان، ويعصمه من أن يصبح سلعة أو تجارة أو ستارة يحتمي بها الكذب، ويستشري الفساد ويعم النفاق.

فصل الدين عن الدولة يحرر الدولة من العمل ضد وظيفتها، لأن وظيفة الدولة هي أن تجمع بين كل من ينتمون لها على اختلاف أصولهم وعقائدهم ومذاهبهم، وتوحد صفوفهم، وتضمن لهم أمنهم وحريتهم، وتساعدهم على أن يتضامنوا ويتقدموا.

وهذا ما تقوم به الدولة الوطنية التي تتأسس على العقد الاجتماعي الذي يصبح به الأفراد جماعة أو أمة تتفق فيما بينها على الانضواء تحت لواء يجمعها وسلطة تمثلها وتكون هي مصدرها، فالأمة في الدولة الوطنية هي مصدر كل السلطات.

وعلى العكس من كل هذه الشروط تكون الدولة الدينية التي تقوم على رابطة الدين وحدها، أما الدولة الوطنية فتقوم على المواطنة التي تتسع للتعدد وهو أساس للحرية التي لا تعرفها الدولة الدينية، لأن الحاكم فيها لا يمثل المواطنين وإنما يمثل الله كما يزعم وينوب عنه في الحكم.

ولأن الدولة الدينية لا تعترف إلا بدين واحد فهي في حرب متصلة مشتعلة أو غير مشتعلة مع أصحاب الديانات الأخرى، وهذه ليست مجرد تنبؤات تصدق أو لا تصدق، وإنما هي وقائع فعلية نعيشها، فهل تكون هذه الدولة الدينية بهذا الوصف وطناً آمناً للدين، وهل يزدهر الدين في مثل هذه الدولة ويصبح حضارة تتحاور مع غيرها؟

الجواب هو النفي، والدولة الوطنية بنظامها الديمقراطي وضمانها لحقوق الإنسان هي الوطن الآمن للدين. لكن هذا الجواب لا يتفق مع الخطاب الديني الموروث من ثقافة العصور الوسطى ونظمها البائدة، ونحن إذاً في أشد الحاجة لخطاب ديني جديد.

 

Email