رؤية بشأن الخطاب الديني

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المهم أن يرتكز الخطاب الديني على العلاج، المستند إلى العلم والحكمة والاعتدال ومعرفة المشكلات، والتشخيص السليم لها، ووضع الحلول المناسبة لها، وفق معايير تحقق الغرض من هذا الخطاب وهو العلاج.

والخطاب العلاجي هو الذي يتصدى للسلبيات والمشكلات، عبر مخرجات علاجية واضحة صحيحة، ليضع المفردة الإيجابية محل المفردة السلبية، فيعالج التطرف بالاعتدال، والتعسير بالتيسير، والانحراف بالاستقامة، والرذائل بالفضائل، والفوضى بالانضباط، والتعصب بالتسامح، والعنف بالمسالمة، والتصارع بالتعايش، والوصايا الدينية والفكرية بالحوار والإقناع، والطائفية والتنازع بالمواطنة الصالحة، والعنصرية بالمساواة في الآدمية، وازدراء الناس باحترامهم، والتحزب والتكتل بالوحدة والاعتصام، وشق الصف بتوحيد الكلمة، والانتماء للجماعات والأحزاب بالانتماء للوطن وقيادته ومجتمعه، وهكذا.

والخطاب العلاجي خطاب متزن منضبط يحقق المصالح العليا للأفراد والشعوب والأوطان، وهو سالم من الاضطراب، لأنه يعتمد على مصادر التلقي الصحيحة من الكتاب والسنة والإجماع، ويستنير بهدي الصحابة وأهل العلم الراسخين كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والتزامُ المعايير الصحيحة في التلقي والاستنباط أمر ضروري لحماية الخطاب الديني من سوء التوظيف، إذ لو انعدمت هذه المعايير لقال من شاء ما شاء باسم الدين لتحقيق أغراض ومكاسب، كما تفعله كثير من الأحزاب الدينية التي تتاجر بالدين لنيل مكاسب سياسية.

والخطاب العلاجي خطاب حكيم، يراعي المصالح والمفاسد والمآلات والعواقب، ويضع العلاج المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، بما يتواءم مع الشخص المخاطب، امتثالاً لقول الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة}، ومن مظاهر الحكمة في الخطاب العلاجي أنه ينظر في صحة المحتوى وينظر في الأثر المترتب على نشره، وخاصة في منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت اليوم من أوسع وأسرع بوابات النشر في العالم، والداعية يجدر به أن يحسن استخدام هذه المنصات، وأن يجعل عيناً على المحتوى وعيناً على ثمرة النشر، وألا يهمل النظر في العواقب لئلا يترتب على خطابه من الضرر أكثر من النفع المرتجى.

ومن سمات الخطاب العلاجي حسن استخدام وسائل الإقناع العلمي والأخلاقي، فالإقناع العلمي بسرد الأدلة والحجج وضرب الأمثلة وإزالة الشبهة واستعمال الأساليب البلاغية المؤثرة كالتشبيه والاستعارة وغيرها، وتجديد عرض الخطاب بالاستفادة من الأدوات والوسائل المعاصرة، والإقناع الخُلُقي بالرفق واللين، والعناية باختيار الألفاظ الحسنة، واجتناب الحدة والشدة والإساءة إلى ذات الشخص المخاطب، واستمالته بحسن الحوار والأدب، فقد قال تعالى لموسى وهارون في دعوة فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}، وقال سبحانه لنبيه الكريم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كانت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، لأن الخطاب العلاجي خطاب رحمة وهداية ونور.

ومن سمات الخطاب العلاجي الانضباط في المسائل الاجتهادية، وعدم التشدد فيها، فقد اجتهد الصحابة والعلماء في مسائل كثيرة فلم يعب بعضهم على بعض، وعلاج التشدد في هذا الباب بترسيخ التسامح والحوار العلمي، والحذر من مواجهة التشدد بالتشدد، كمواجهة التشدد في تحريم شيء محتمل بالتشدد في إباحته، أو العكس، فهذا إنما هو ترسيخ للتشدد مع تغيير الاتجاه فقط من إباحة إلى تحريم أو من تحريم إلى إباحة، فهو دوران حول المشكلة، لا اجتثاث لها، مما يؤدي إلى زيادة نسبة التشدد والتشدد المعاكس في المجتمعات.

ومن سمات الخطاب العلاجي معايشة الواقع، ومواكبة التحديات المعاصرة، فالداعية ابن عصره، ويهتم بقضايا مجتمعه ووطنه وأمته، ويعتني بتقديم أولويات الوقت، فإذا كشر الإرهاب عن أنيابه وجدته يقتلع أنيابه بالوسطية والاعتدال والتحذير من الغلو ومظاهره، وإذا أقبلت أمواج الفتن والثورات لتغرق الأوطان كان سداً منيعاً أمامها، وإذا دبَّ داء الطائفية عالجها كذلك، وإذا رأى خيانة الوطن من أحزاب وتنظيمات حذَّر من ذلك ورسَّخ قيم المواطنة الصالحة، وهكذا.

والخطاب العلاجي ينظر في علل الأحكام ومقاصدها، لأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح الدارين، سيما الضروريات الخمس الكبرى وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وإذا تأملنا في حال الإرهابيين وجدناهم قد أخلوا بهذا الباب أشد الإخلال، ولو كان عندهم أدنى بصيرة بأبجديات مقاصد الشريعة لعلموا علم اليقين أن نصرة الإسلام لا تكون بتشويهه والتنفير عنه بالتفجير والدهس وقطع الرؤوس، فهذا من أمحل المحال، ومن وسائل علاج هذا الفكر المريض ترسيخ فقه المحافظة على المقاصد والضروريات.

ومن سمات الخطاب العلاجي العناية بالتفصيل وحسن البيان، والبعد عن الإطلاقات العامة والإجمال والإبهام وما يساء فهمه من الكلمات وما يؤدي إلى لبس ومفاهيم مغلوطة ولو لم يقصد المتكلم ذلك، وتأمل - رعاك الله - قول الواعظين لقارون: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} تجد فيه نصيحةً علاجيَّةً مفصَّلة معتدلة، فقد حثوه أولاً على الإحسان وعمل الخير، ولكي لا يتوهم قارون أن المطلوب منه ترك حظه من الدنيا فينفر أو يتطرف أتبعوا النصيحة بجملة احترازية وهي قولهم: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة في كل العصور، دعاة وسطية واعتدال بالخطاب الواضح المفصل.

إن الداعية كالطبيب، يعالج الأمراض ولا ينشرها، ويلتزم القدوة الحسنة في دعوته مضموناً وأسلوباً، وفي أخلاقه وتعامله، ليكون ذا نفع عميم.

Email