مصر بين إدارتين أميركيتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

في جملتين شديدتي الدلالة، تلخّص الموقف بين مصر والإدارة الأميركية في عهد أوباما وبعد ثورة 30 يونيو التي أسقطت حكم «الإخوان» الفاشي، واستعادت مصر من قبضة الإرهاب وتجار الدين.

بعد أسابيع من محاولات إدارة أوباما ضرب 30 يونيو أو الالتفاف عليها، وبعد أن أدركت واشنطن جيداً، استحالة الرهان على «منصة رابعة»، وتهديداتها ضد إرادة شعب بكامله، يحرسها انحياز جيش وطني لإدارة شعبه، كان الموقف الأميركي يحمل قدراً من التسليم بالواقع، مع تصميم على موقف معادٍ ضده، ومن هنا، كانت الجملة التي لخصت موقف واشنطن، حين قال أوباما: «إن العلاقات بين مصر وأميركا، بعد 30 يونيو، لن تكون أبداً كما كانت من قبل».

كان الرد من الرئيس السيسي، وكان يومها وزيراً للدفاع، معبراً عن المرارة من موقف الإدارة الأميركية، ومؤكداً أن مصر، شعباً وجيشاً، لا يمكن أن تخضع لإدارة تريد أن تسلم أمرها للإرهاب والتخلف، حتى لو كانت هذه الإدارة هي إدارة واشنطن الرسمية.

كان رد السيسي يومها بسيطاً وموجزاً وحاسماً: «إن مصر لن تنسى من وقف معها في أزمتها، ولن تتسامح مع من وقف ضد إرادة شعبها».

وبين قول أوباما، أو تهديده، بأن العلاقات مع مصر لن تعود كما كانت، وتأكيد السيسي أن مصر لن تنسى ولن تتسامح، كان مسار العلاقات بين البلدين حتى رحيل أوباما. قطعت أميركا المعونات العسكرية، وبينما كانت مصر تخوض حرباً شرسة ضد الإرهاب في سيناء، كانت واشنطن توقف تسليم طائرات «الأباتشي» و«الفانتوم»، التي كانت مصر قد تعاقدت عليها، والأسوأ، كان وقف إمداد مصر بقطع الغيار لمعداتها العسكرية الأميركية الصنع، التي كانت تشكل غالبية تسليح الجيش المصري.

ولم تكتفِ الإدارة الأميركية وقتها بكل ذلك، بل ضغطت على حلفائها في أوروبا، ليشاركوا في حصار مصر، ويعلنوا عدم توريد السلاح لها، ودعمت عن طريق حلفائها في المنطقة، كل جهود جماعة «الإخوان» لضرب الاستقرار داخل مصر.

ورغم حصار اقتصادي أيضاً، حاول عبثاً إخضاع مصر، صمدت مصر، وقاتلت الإرهاب على أرضها وهزمته، وبدأت جهوداً لتجاوز المصاعب الاقتصادية، وإصلاحاً تحمل الشعب تكاليفه.

اليوم.. كم تبدو المسافة واسعة بين موقف واشنطن الرسمية، وهي تقاوم سقوط «الإخوان» بمصر في 30 يونيو، وبين مظاهر الترحيب بالرئيس المصري في زيارته الرسمية الأولى لأميركا، أصبح هناك إدراك بأنه لولا صمود مصر في حربها ضد الإرهاب، لكانت المنطقة كلها قد سقطت في قبضته، وأصبح هناك يقين بأن مصر القوية المستقرة، هي أساس الاستقرار في المنطقة كلها، ولم يعد صبية «الإخوان» يتجولون في ردهات البيت الأبيض والكونغرس، بل أصبحوا يواجهون اعتقاداً جازماً بأنهم أصل الإرهاب بكل جماعاته، وينتظرون قراراً قد يصدر في أي لحظة بإدراجهم في كشف الجماعات الإرهابية. تغير الموقف الأميركي الرسمي من مصر، كما تغير من قضايا عديدة في المنطقة، وأميركا تركز الآن على الحرب ضد الإرهاب، بعد سنوات من التردد في التعامل مع هذا الخطر، الذي دفعت البلاد العربية أفدح الأثمان وهي تواجهه، بينما كان البعض لا يصدق أنه لن يظل بعيداً عن لدغات الثعابين التي أطلقها.

وأميركا تعدل موقفها من تمدد النفوذ الإيراني، ودعم طهران لجماعات تضرب الاستقرار وتشعل الفتنة الطائفية، وترتكب كل الجرائم التي يرتكبها الدواعش، رافعة مثلها أعلاماً مزيفة تدعي الجهاد باسم الإسلام البريء من كل هذه الإساءات لشرع الله ودينه الحنيف.

ويتحدث ترامب عن صفقة كبرى لحل القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي، لكنه، في نفس الوقت، يعلن أنه ما زال على رأيه بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ويطلق أركان إداراته تصريحات شديدة التحيز لإسرائيل، كما فعلت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، ويضع الملف في عهدة صهره اليهودي الديانة والمناصر لجهود الاستيطان.

لا شك أن الرئيس السيسي، ثم الملك عبد الله عاهل الأردن، قد نقلا إلى ترامب الموقف العربي الذي تم إعلانه في قمة الأردن، الذي يتمسك بالمبادرة العربية، دون أي تعديل، ويصر على حل الدولتين، الذي يضمن إقامة دولة فلسطين المستقلة على الأراضي المحتلة عام 67، وعاصمتها القدس العربية، وهو نفس الموقف الذي سيسمعه ترامب من الرئيس الفلسطيني أبو مازن، عند لقائهما خلال أيام.

استعادة الاهتمام الأميركي بشؤون المنطقة، أمر مهم، واستعادة القضية الفلسطينية مكانتها كقضية مركزية ومفتاح للحرب والسلام في المنطقة، أمر حيوي، وانفتاح واشنطن على العالم العربي ومراجعة سياساتها الخاطئة في الفترة الماضية، تطور إيجابي، والاعتراف بدور مصر في محاربة الإرهاب، في ظل ظروف كانت الإدارة الأميركية تدعم فيها الإخوان وترعى الجماعة التي هي أصل الإرهاب، أمر يعني الكثير في السياسة الأميركية، ويعني الكثير أيضاً بالنسبة للقوى العربية التي وقفت مع مصر في معركتها، وساندت نضالها ضد فاشية الإخوان، وصمودها ضد الحصار السياسي والاقتصادي الذي حاول البعض، بقيادة إدارة أوباما وكلينتون فرضه علينا.

ويبقى الأهم، وهو أن ما تحقق من تقدم في الوعي الأميركي الرسمي بأخطار الإرهاب، وأطماع القوى الإقليمية الخارجة على القانون، وهو حصار صمود عربي، وتضحيات جسام في معركة إنقاذ مصر من قبضة الإخوان، ومواجهة إرهاب الدواعش، وتدخل القوى الإقليمية غير العربية وأطماعها وتآمرها ضد العرب، ومن هنا، فإن مستقبل العلاقات مع واشنطن، ومع باقي القوى العالمية، سوف يعتمد على ما يستطيعه العرب لأنفسهم قبل أي شيء آخر.

إن كل ما يجرى في المنطقة، وكل ما يدور بشأنها بين القوى الكبرى، التي أصبحت تدور معاركه على المكشوف على الأرض العربية، وأيضاً كل ما يجرى من محاولات من القوى الإقليمية غير العربية لمد نفوذها، كل ذلك يؤكد أن العرب لم يكونوا يوماً في حاجة إلى استراتيجية موحدة لمواجهة الموقف وعمل مشترك من القوى الأساسية الباقية بعد سنوات التدمير.. مثلما هم اليوم.

يقول ترامب إنه رجل الصفقات الكبرى.. وقد جربنا لسنوات طويلة، أن ندخل الصفقات منفردين، فتكون النتيجة أن ندفع الثمن ولا نقبض شيئاً، فهل يسعفنا الوقت والوعي بخطورة الموقف، لكي نملك الرؤية التي تجمع القوى العربية الأساسية في موقف واحد، يجسد الإجماع على محاربة الإرهاب، ووقف التدخل الأجنبي، وفرض الشرعية بديلاً لمحاولات فرض الأمر الواقع على كل القوى المعادية للعروبة، والساعية لمصادرة مستقبل العرب.

Email