سيولة مخيفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشعر وأنا أتابع مجريات الأمور أننا تعرضنا لخطة محكمة لنزع حالة الانتماء الوطني، وكان من أشد أسلحة أصحاب هذه الخطة سلاح الدين الذي توزعت تعاليمه للأسف الشديد على عشرات، بل وربما مئات، المنابر والمناهج ووسائل الإعلام، بهدف القضاء على الهوية المصرية واستبدالها بعشرات الهويات الغريبة.

وليس أدل على صحة كلامي، من رصد صورة الشارع المصري حيث تتباين الأزياء من غربي إلى عربي إلى آسيوي أفغاني، بحيث يستحيل على المرء التعرف على هوية أبناء وبنات هذا البلد..

ونعرف أن المجتمع المصري انقسم إلى مجموعات تتبع هذا «الداعية» أو ذاك، فسادت سيولة مخيفة، في ظل غياب، وقد أقول في ظل تواطؤ، أو على الأقل في ظل إهمال وتجاهل الدولة، وأحياناً في ظل رضوخ معيب، وانصياع مزعج، للتيارات الوافدة والثقافات الدخيلة التي تكاتفت على هدم أقدم وأعرق ثقافة في التاريخ، بالتركيز على النصف الأسفل من الإنسان وتجاهل مبدأ العدالة الاجتماعية، التي يتفتت الوطن في غيابها.

وأمر هنا مروراً سريعاً على مؤسسي هذه الخطة وعلى رأسهم بريطانيا التي احتلت مصر وبعض دول المنطقة وتوجت «خدماتها !!» بإنشاء إسرائيل ثم جماعة الإخوان المسلمين !!..

والأمر الملح في رأيي هو أن ننظر نحن في المرآة لنرى حقيقتنا، قبل أن نحاول إقناع الآخرين، بأننا نختلف عما يرونه من سلوكيات وحشية، تنسب نفسها زوراً للإسلام.

والنظر إلى مرآتنا الذاتية يؤكد أن اختلال الميزان الاجتماعي بدأ في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما ظهرت «الاستراتيجية الأميركية» حول حرب افغانستان، التي لجأت ضمناً إلى تصوير المعركة بين معسكرين؛ معسكر الايمان ضد معسكر الكفر بقيادة السوفييت!!

وإذا سألت عندئذ، ولماذا يا سادة لم تبدأوا بتحرير فلسطين التي ترزح تحت نير الصهيونية، أعتى نظم الاحتلال العنصري، التي كما لا يخفي على أحد أن من أهدافها المعلنة، هدم المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهو كما نعرف في فلسطين وليس في افغانستان، إلا ويهب في وجهك كورس التكفير الذي يمهد الطريق الى القتل «المباح والحلال!»..

ومنذ انحرف بنا التدين الشكلي والاهتمام بالمظهر، دون الجوهر، برزت كل معالم التخلف بل والتدني، فقبل سيادة هذه التيارات، كان السلوك وليس المظهر، هو معيار الحكم على الإنسان، كان العمل حق والعمل شرف والعمل واجب. وكان شعارنا، من لا يملك قوت يومه لا يملك حرية قراره، وكانت لدينا صناعات تكفينا شر السؤال وكانت شوارعنا نظيفة.

ووصل بنا الحال إلى قتل مواطنين مصريين بدعوى انهم مسيحيو العقيدة، وكأن وجود مواطنين مسيحيين في مصر لم يُكتشف إلا في القرن الحادي والعشرين..!! وكأن أي معتد على مصر كان يفرق بين أبنائها، وفقاً لديانتهم.

ووسط كافة الممارسات السلبية والمخزية التي ينسبها مرتكبوها إلى الإسلام، تتعالى الأصوات، مطالبة بتصحيح صورة الإسلام في الخارج !

الأجدر بالأولوية المطلقة، في تقديري هو، تصحيح صورة الإسلام وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها في العقود الأخيرة في الداخل، فالشباب الذي ينخرط في صفوف التنظيمات الإرهابية، وأخطرها داعش وفروعها، يفعل ذلك مقتنعاً، بخطاب «الدعاة!؟» الذين اقنعوه، بأن ذلك هو الطريق إلى الجنة!

وهنا استحضر صورة أبي، ابن الصعيد الذي نهر أمي عندما أعربت عن قلقها على أخي الذي هرب من البيت متطوعاً في المقاومة الشعبية، خوفاً من أن يموت في سيناء.. رد أبي بحسم: «ما يموت، هو أحسن من اللي ماتوا في سينا؟».. وفي هذا كما نرى، أن الدين لله والوطن للجميع، وإذا عدنا لهذا الشعار النبيل لثورة 19، فسوف تعلن التجارة بالدين إفلاسها، وسيعود للوطن بهاءه، وقوته ومجده.

 

 

Email