أين وصل مشروع الدولة الفلسطينية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الملتقى الثالث للحوار الذي عقدته مؤسسة «ياسر عرفات» في القاهرة مؤخراً، لبحث التحديات المطروحة فلسطينياً وعربياً مع الإدارة الأميركية الجديدة، اتفق المتحدثون حول تشخيص الموقف الراهن، فمن ناحية موقف الإدارة الأميركية الجديدة الذي تم التعبير عنه بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى، يتمثل في التخلي المحتمل عن حل الدولتين، أو ما يتم الاتفاق حوله بين الأطراف،.

وهذا الموقف لم يتم اعتماده رسمياً، ولكنه يبقى في طور «التشكل»، ومن ناحية أخرى، فإن التوجهات الإسرائيلية نحو حل الدولتين وتقاسم الأرض، قد انتقلت إلى حل الدولة الواحدة والتقاسم الوظيفي، أي تقاسم الصلاحيات والوظائف في إطار السيادة الإسرائيلية.

على صعيد آخر، فإن كلاً من هذين العنصرين السابقين على الصعيد الأميركي والإسرائيلي، يتطلبان تأكيد التوجه الدبلوماسي الفلسطيني على صعيد المجتمع الدولي، والتمسك بالشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، وتفعيل حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني، بهدف تدعيم المقاطعة الرسمية والمقاطعات الشعبية لإسرائيل، وإنهاء الانقسام الفلسطيني الفلسطيني.

وبالرغم من سلامة هذا التشخيص للوضع الراهن بتشابكاته الإقليمية والدولية، وصحة التوجهات التي ارتسمت في هذا اللقاء حول مواجهة هذا الموقف وأساليب هذه المواجهة، فإن المسكوت عنه يفوق بكثير المنطوق به، ذلك أن الحالة الراهنة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع العربي الإسرائيلي، تتطلب مراجعة نقدية شاملة، تعيد النظر في الأسس والمنطلقات التي استندت عليها عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، بهدف استلهام الدروس والعبر، والتأسيس لمرحلة جديدة في النضال الفلسطيني من أجل الدولة الفلسطينية.

في مقدور المراقب المحايد، أن يلحظ أن التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي الجديد، الذي يتنكر لحل الدولتين، لم يظهر هكذا فجأة وبدون مقدمات، ولم يتبلور بين عشية وضحاها، ولكنه اتجاه بدأ يشق مجراه منذ ما يزيد على الأربعة والعشرين عاماً، منذ عقد اتفاق أوسلو، أو إعلان المبادئ في 13 سبتمبر عام 1993، والشواهد التي تنطق بذلك كثيرة ومتعددة، من بينها مثلاً أن وتيرة الاستيطان قد تضاعفت خلال سنوات أوسلو.

فزاد عدد المستوطنات والمستوطنين، بهدف تكريس الأمر الواقع، وتنفيذ مخطط القضم التدريجي للأراضي الفلسطينية، أما صلب اتفاق إعلان المبادئ ذاته، فلم يتضمن نصاً صريحاً حول الانسحاب والجلاء عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل تضمن نصاً حول إعادة الانتشار، وهو ما عنى بالنسبة لإسرائيل جواز مرور للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية.

وتأكيد سيطرتها في الواقع العملي، من ناحية أخرى، فإن الاتفاق قد أرجأ كافة القضايا الأساسية للحل الدائم، وهى الاستيطان والحدود والمياه واللاجئين والدولة، إلى مرحلة تالية من تطبيقه، تبحث في العالم الثالث من هذا التطبيق، وهو ما منح إسرائيل فرصة إضافية للتنصل من الالتزام، والاستمرار في المماطلة والتسويف، بهدف تعزيز الفرصة لمخططها في تقويض فرصة حل الدولتين.

وهكذا توقفت أوسلو عند مراحلها الأولى في إعادة الانتشار، وانتهت المرحلة النهائية بفشل مؤتمر كامب دافيد الثانية مع إدارة كلينتون، ودخلت التسوية في مرحلة التيه، والوصول إلى النقطة التي خططت لها إسرائيل، تحت غبار عملية سلام وهمية امتدت لعدة عقود.

وبناء على ذلك، فإنه من المنطقي أن تقود المقدمات إلى نتائج تتوقف على طبيعة هذه المقدمات، خاصة أن موازين القوى على الأرض لصالح الطرف الأقوى في المعادلة، وهو إسرائيل، والتي تمكنت بحكم علاقات القوى لتطويع المقدمات، لتصل إلى النتائج المأمولة من جانبها.

وذلك يعنى بداية أن نستوعب أنه لا يمكن معالجة الوضع الراهن بذات الأساليب وبذات الاستراتيجية ونمط التفكير والعقلية الذي ساهم في الوصول إليه، فالقضية الفلسطينية توجد في وضع جديد ومرحلة جديدة على كل صعيد، وتحتاج إلى مقاربات تتناسب مع هذه المرحلة.

أولى عناصر هذه المقاربة، تتمثل في نقد التوجهات التي حكمت مسيرة هذه الأعوام، وتملك الشجاعة للاعتراف بالأخطاء، واستيعاب حقيقة أن الاعتراف بالخطأ ليس نقيصة أو مساساً بمكانة من ارتكبه، بل هو فضيلة لا يمتلكها إلا الأقوياء، والأهم من الاعتراف بالخطأ، هو محاولة تصويبه، بهدف تأسيس رؤية جديدة، تأخذ في اعتبارها المعطيات الراهنة، وتشدد على الدروس المستفادة، وتبني آليات مؤسسية لمعالجة الأخطاء عند وقوعها، إن الاعتراف والنقد والمواجهة مع النفس، هي أساس التطور، وتمثل عملية تأسيسية لا غنى عنها.

أما ثاني هذه العناصر، فيتمثل في النظر إلى الشرعية الدولية، المتمثلة في القرارات الأممية ومبادئ القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، باعتبارها كلاً متجانساً ومتكاملاً لا يقبل التجزئة والانتقاء، وذلك يعني أن حق المقاومة للاحتلال حق لا يمكن تجاهله، وهو يمثل الطريق لتغيير المعادلة الراهنة، المقاومة بمعناها الشامل، المدني والسياسي والكفاحي، وتوفير الإجماع الوطني، واستدعاء المخزون الكفاحي للشعب الفلسطيني في سنوات السبعينيات والانتفاضة الأولى.

أما ثالث هذه العناصر، فيتمثل في تحرير المشروع الوطني الفلسطيني من الارتباطات الإقليمية، خاصة دول مثل تركيا وإيران، ذلك أن هذه الدول لا تتجاوز القضية الفلسطينية في سياساتها مجرد ورقة، تستثمرها لتدعيم وتعزيز مكانتها الإقليمية ومشروعها الإقليمي في الصراع الإقليمي الراهن.

وأخيراً، وليس آخراً، فإن تحرير المشروع الوطني الفلسطيني من الأيديولوجيا، يبدو كضرورة لا غنى عنها، ذلك المشروع الوطني التحرري، الذي يستهدف الجلاء والانسحاب لقوات الاحتلال.

وإقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس، ليس بحاجة إلى أيديولوجيا تشرع للانقسام والاصطفاف التعبوي خلف الشعارات الأيديولوجية، فالأهداف واضحة، وكذلك الوسائل والخبرات الكفاحية للشعوب في مواجهة الاحتلال، وتوحيد الفلسطينيين في مواجهة الموقف الراهن، يمثل الرد الحقيقي على التحديات الراهنة.

 

Email