الإرهاب لا يحتاج بطاقة عضوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نستطيع بالطبع أن نتفهم ردود الفعل التي صدرت عن أسرة الشاب المصري المتهم بالهجوم على متحف اللوفر، خاصة عن والده الذي نفى بشدة أن يكون ابنه قد دخل المتحف مهاجماً، وكذّب كل ما ذكرته السلطات الفرنسية عن السلاح الذي قيل إن ابنه كان يحمله في يده، وعما وقع بينه وبين رجال الأمن الذين أطلقوا عليه الرصاص، وأصابوه إصابات خطيرة، واتهموه بالإرهاب زوراً وبهتاناً، ليبرروا جريمتهم التي سيقاضي الذين ارتكبوها.

نستطيع أن نتفهم ردود الفعل هذه من أسرة صدمت بالحادث الذي تعرض فيه ابنها لموت محقق. فإن كان قد نجا من الموت، كما ذكرت بعض الأنباء، فهو الآن معرض لعقوبات تطيح بمستقبله، وتفسد حياته وحياة أسرته، التي تعتقد أنه بريء، وأنه لا يستحق هذا المصير الذي تعرض له، فهو بعيد كل البعد عن الإرهاب، كما تعتقد أسرته. وقد عاش في ظروف تحميه من التطرف. والده ضابط شرطة وشقيقه كذلك، وهو يقيم في بلد مستقر، ويشغل وظيفة جيدة، ويتمتع بامتيازات تضمن له حياة هانئة مستقرة.

وقد أعلنت السلطات المصرية المسؤولة، أن صحيفة حالته الجنائية خالية من أي أحكام صدرت ضده. لكن والد هذا الشاب المصري المتهم، لم يذكر لنا شيئاً عما وجده الفرنسيون في الهاتف المحمول الخاص بولده، وما قرؤوه في حسابه من عبارات يتحدث فيها بتعاطف عن "داعش"، وعن المتشددين في سوريا والعالم كله، وعن الإيصال الذي اشترى به الأسلحة البيضاء التي حملها في هجومه على حراس المتحف، وصيحته فيهم «الله أكبر»، كما أن والد المتهم، لم يتعرض في كلامه للأسباب التي يعتقد أنها دفعت الفرنسيين لتلفيق التهمة لشاب أجنبي لا يعيش في فرنسا، وليس له فيها تاريخ يبرر الشك فيه والخوف منه. وقد حصل على تأشيرة الدخول لفرنسا بسهولة، تدل على حسن الظن والاطمئنان.

وفرنسا دولة كبرى، تحرص أشد الحرص على ما اكتسبته من احترام العالم، واعترافه بفضلها، خاصة في تاريخها الحديث، الذي كان سعياً مثمراً لتحرير البشر من عصور الظلام والطغيان، وكان دفاعاً مستميتاً عن الديمقراطية، وحكم القانون، وحقوق الإنسان. فإذا كانت فرنسا لا تخلو مع هذا من عنصريين يكرهون الأجانب المقيمين، ويسعون إلى ترحيلهم من بلادهم، فالشاب المصري المتهم في الحادث، ليس طرفاً في الصراع مع هؤلاء، لأنه مجرد زائر في فرنسا، ولم يتعرض فيها لما يمكن أن يثير الحقد، أو يدفع للعنف، فضلاً عن أنه ينتمي لبلد تربطه بفرنسا علاقات تاريخية يعتز بها الشعبان.

لكننا في انتظار نتيجة التحقيقات التي لا نشك في جديتها ونزاهتها، وإن كان علينا نحن من جانبنا، أن نتحلى بالموضوعية، فلا نكذّب مقدماً ما يقوله الفرنسيون، ولا نستبعد أن يكون هذا الشاب قد انساق للهجوم على "اللوفر"، في نوبة من نوبات الجنون التي استولت من قبل على آخرين كثيرين، وقعوا ضحايا لجماعات التشدد الديني ومنظماتها الإرهابية التي روعتنا وروعت العالم معنا، وهي تكفر المخالفين وتسوقهم للموت، وتستدرج من تستطيع استدراجهم، بما تبثه في نفوسهم من كلام مخدر، وبما تخلعه عليهم من بطولات وهمية، وأسماء مستعارة مزيفة، يظنون أنهم أصبحوا خلفاء راشدين وأبطالاً فاتحين، فإن سقطوا في هجوم قاموا به أو معركة دخلوها، فهم شهداء بأجنحة يطيرون بها، ليجدوا أنفسهم مع الحور العين والولدان المخلدين!، ولا أظن أن فينا من ينكر أن هذه النماذج موجودة في بلادنا، وأننا نواجهها ونصطلي بنارها.

وأنا أصدق ما قيل عن صحيفة الشاب المتهم الجنائية، وعن خلوها من أي حكم صدر ضده، وأنا لا أكذّب والد المتهم، حين يؤكد أن ابنه لا ينتمي، حسب علمه، لأي تنظيم إرهابي، لكن الإرهاب، كما أشرت من قبل، لا يحتاج دائماً إلى بطاقة عضوية، وإنما يحتاج فقط في هذه الأيام إلى حالة نفسية مضطربة وثقافة ضحلة وإرادة مسلوبة ينساق بها صاحبها، وهو مخدر مغيب إلى هذا الجنون الذي يزين الموت، ويجعل الانتحار خطوة إلى الجنة، ونعيمها! الإرهاب الآن مناخ عام وثقافة مريضة محرضة، بالإضافة إلى أنه جماعات منظمة وخطط ومصالح، هذا المناخ العام، يتمثل في هذا السعي المحموم الذي تقوم الجماعات الدينية، لتدين كل شيء وأسلمة كل شيء، السياسة، والقانون، واللغة، والزي، والتربية والتعليم، وقد قرأت أخيراً عن نصوص مقررة على طلاب المدارس المصرية، تتحدث عن ذبح الذين يقعون أسرى في أيدي المسلمين والتمثيل بهم، فضلاً عما نقرأه ونسمعه كل يوم في التحريض على المسيحيين، واتهام الأوروبيين ودولهم وساستهم ومثقفيهم بمحاربة الإسلام والمسلمين في ما يقولون وفي ما يفعلون، وهو اتهام شائع، يتقرب به بعضهم للعوام المساكين.

وفي هذا المناخ، وبهذه الثقافة المريضة، أصبحنا نرى أنفسنا، ونحدد هويتنا، فلا نرى لنا وجوداً إلا في ما نخالف به غيرنا، وهذه هي الثقافة التي أدت إلى ما قاسته باريس في أواخر العام الأسبق، وما قاسته نيس في الماضي، وبعدها روان، وقبلها مدريد، وبعدها ميونيخ.

ومن الطبيعي أن تكون التيارات العنصرية الأوروبية والأميركية، أول من يستفيد من الجرائم التي يرتكبها الإرهابيون باسم الإسلام، ويعلنون فيها عداءهم لكل ما يقدسه الأوروبيون من قيم يقدسها العالم كله الآن، ولنتأمل ما يمكن أن تقوله في فرنسا ماري لوبن وحزبها، الذي يعلن الحرب على المسلمين والعرب الذين وصل عددهم الآن في فرنسا إلى ستة ملايين، عن هذا الشاب المصري المتهم، لو أثبت التحقيق أنه هاجم "اللوفر" بالفعل، ماري لوبن ستعتبر ما حدث هجوماً على تاريخ فرنسا وثقافتها، وعلى الحضارة الإنسانية كلها.

وعندئذ، سيكون لها الحق، لأن اللوفر ليس مجرد متحف جهوي أو إقليمي، وإنما هو صرح من صروح التاريخ الإنساني، شهد فيما شهدته فرنسا وشهده العالم من أحداث نقلة من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. وهو لا يضم آثار فرنسا وحدها، وإنما يضم كل ما استطاع الفرنسيون أن يجمعوه ويحفظوه من آثار الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والعربية، فإذا كانت التهمة الموجهة لهذا الشاب المصري صحيحة، فهي جريمة ارتكبت في حقنا، قبل أن ترتكب في حق الفرنسيين!

Email