هل تستغني أميركا عن العالم؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

التطبيق العملي للشعار الذي رفعه دونالد ترامب بأن أميركا أولاً يبدو، حتى الآن، مربكاً للجميع بمن فيهم الأميركيون أنفسهم.

ترامب ينطلق من اعتزاز بالقوة الأميركية، ويقين بأن العالم لا يستطيع، بأي حال من الأحوال، أن يتجاهلها أو يستغني عنها، لكنه، في المقابل، لا يطرح هو ومساعدوه الأساسيون، الوجه الآخر للقضية، وهو: هل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية ـ مهما بلغت قوتهاـ أن تستغني عن العالم؟!

خلال أيام فقط من توليه الرئاسة.. سدد الرئيس الأميركي ضربات سياسية واقتصادية في كل اتجاه، بدءاً من الشركاء الأقربين من دول الجوار، وفي مقدمتهم المكسيك التي يريد منها دفع تكاليف بناء الجدار الذي قرر إقامته بطول الحدود بينها وبين أميركا، وتعامل مع رئيسها بطريقة اضطرته لإلغاء زيارته التي كانت مقررة لأميركا!

ولم تسلم أوروبا من هذه الضربات، بعد أن وصف الرئيس الأميركي حلف «الناتو» بأنه قد «عفى عليه الزمن»، وبعد أن أصبح واضحاً رهانه على تفكك الاتحاد الأوروبي، ليأتي الرد من رئيس المفوضية الأوروبية بأن خطر ترامب على أوروبا يوازي خطر روسيا من ناحية، وإرهاب الجماعات المتشددة!

وإذا كانت سياسة ترامب تستهدف مواجهة الصين والحد من نفوذها التجاري والسياسي ومحاولة ترجمة ذلك إلى نفوذ عسكري.. فإن توجيه الإنذارات لليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما بدفع تكلفة «الحماية الأميركية!» ليست الوسيلة المثلى بالطبع لإقامة التحالفات في آسيا.

وبالمثل فإن الباب الذي فتحه قرار منع استقبال أميركا لمواطني الدول السبع العربية والإسلامية، لابد أن يثير المخاوف من سياسات عنصرية كان اليقين عند الجميع أن الولايات المتحدة، قد تخلت عنها منذ عقود وبعد تجربة داخلية أليمة عانى منها الأميركيون السود حتى منتصف القرن الماضي.

الوجه الأكثر خطورة هو كيف يتم تحقيق شعار «أميركا أولاً» واستعادة عظمتها كما يقول الرئيس ترامب.. بينما الداخل الأميركي منقسم على نفسه، كما لم يحدث من زمن طويل؟! لقد ظل الأميركيون يتعاملون مع ما كان يطرحه ترامب أثناء المعركة الانتخابية على أساس أن «ترامب الرئيس» سيكون غير «ترامب المرشح»..

لكن خطاب التنصيب وما تلاه من قرارات، أوضحت أن الوعود الانتخابية هي التي ستحكم سياسة الرئيس! ويزداد الأمر خطورة عند الرأي العام الأميركي بفعل عاملين أساسيين، أولهما أنه لا يوجد برنامج واضح لسياسة البيت الأميركي، ولا أحد يستطيع أن يتوقع ما يصدر أو لا يصدر من قرارات.

والأمر الثاني هو ما بدا واضحاً من تجاهل الأطراف الأساسية في الإدارة الأميركية عند اتخاذ القرارات التي تتخذها مجموعة ضيقة من مستشاري الرئيس، ويصدرها ترامب في أوامر رئاسية لا تمر على الكونغرس، ولا يعلم بها الوزراء المختصون إلا عندما يطلب منهم تنفيذها! وهذا أسلوب قد يصلح لإدارة دول صغرى فاشلة، لكنه لا يمكن أن يدير الأوضاع في القوى الأعظم في العالم حتى الآن!

ويزداد قلق الداخل الأميركي حين يصدر القرار، بهذا الشكل، عن مجموعة لا يحتم القانون موافقة الكونغرس على تعيينها، وبالتالي لا يتولى حسابها! وفي حين أن صهر الرئيس، كوشنير، جزء من هذه المجموعة الأساسية، ومعه ستيفن بانون الذي تم اختياره كبيراً للمخططين الاستراتيجيين وهو المعروف بعنصريته، وكذلك دينيس بريباس كبير موظفي البيت الأبيض الذي لا يقل يمينية عن بانون.

وربما كانت التظاهرات التي عمت أميركا وعواصم عدة في العالم الغربي، قد فاجأت هذه المجموعة التي تصنع القرارات في البيت الأبيض، لكنها بلا شك ليست فقط تعبيراً عن رفض سياسات تعود المجتمع الأميركي على الخلاف بشأنها، وإنما هي تعبير عن رفض الخروج على قيم تأسست عليها الدولة حتى أصبحت القوة الأعظم.

ورفض لأسلوب جديد في اتخاذ القرارات من المعاونين الشخصيين للرئيس، وبعيداً عن الإدارة والوزراء المختصين، وعن رقابة الكونغرس الذي تريد «مجموعة ترامب» في البيت الأبيض استغلال سيطرة الجمهوريين عليه لتحقيق سياساتها التي لم يتم التوافق عليها حتى داخل الجمهوريين أنفسهم.. فما بالك بتحقيق التوافق الوطني عليها!

في تقدير الكثيرين أن الصراع الحقيقي سيكون حول «روح أميركا» التي يريدها ترامب أن تكون «أولاً»! هل ستكون هي المخلصة لمبادئ الحرية والمساواة ورفض العنصرية.. أم ستعود لماضٍ عنصري تخلصت منه، ولعزلة خرجت منها فصارت «الدولة الأعظم»؟!

يتصرف الرئيس ترامب وفريقه على اعتبار أن العالم لا يستطيع الاستغناء عن أميركا. وتعرف غالبية الشعب الأميركي أن بلادها أيضاً لا تستطيع الاستغناء عن العالم.

لا تستطيع أميركا، ولا يملك العالم إلا الرهان على أن تنتصر أميركا للديمقراطية ولمبادئها، وألا يقود اليمين المتطرف الدولة الأعظم إلى المجهول. ولا نستطيع في العالم العربي، حيث ينتابنا القلق من تمدد النفوذ الإيراني، أن نرى كيف أن ما صدر من قرارات حتى الآن يخدم الإرهاب ولا يحاربه. وأن ما صدر من تصريحات حول الإخوان وإيران هي قرارات تنتظر التنفيذ. والداخل الأميركي هو الذي سيحسم الموقف، لكن العالم من حقه أن ينتابه القلق حين يكون مصير الدولة الأعظم موضع تساؤل لا يجد الإجابة!!

Email