التأمل في جدل الثنائيات الأساسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرفت الصديق الأستاذ صلاح سالم منذ بداية النصف الثاني من التسعينيات، ولفت نظري وانتباهي بطموحه الفكري والثقافي الكبير، وعندما صدر كتابه المهم المعنون «حول الدين والحداثة من عصر التدوين العربي إلى عصر التنوير الغربي» تأكدت أنه كان بمستوى هذا الطموح، وأنه يمتلك القدرات والمؤهلات العلمية والفكرية والبحثية الضرورية.

يصحبنا صلاح سالم في هذا الكتاب، في رحلة فكرية ممتعة ومثيرة للتفكير والتأمل، رحلة كونية وإنسانية تمتد جغرافياً من الشرق إلى الغرب ودينياً من الإسلام إلى المسيحية والديانات التوحيدية، بل والديانات بشكل عام، وذلك عبر مختلف اللحظات التاريخية الفارقة والمؤسسة، لمرتكزات كل من الدين والحداثة، وطبيعة الجدل والتفاعل بينهما وتجلياته الفكرية والسياسية.

يتمحور «جدل الدين والحداثة» حول أطروحتين أساسيتين؛ شغلتا العقل البشري منذ ظهور الأديان التوحيدية بصفة خاصة، ومثلتا بؤرة الصراع والتوتر طوال مسيرة التاريخ الإنساني ورحلته مع الدين والحداثة، وتشكل هاتان الأطروحتان مرتكزات التجليات الفكرية والفلسفية والسياسية والعلمية التي نجمت عن جدل الدين والحداثة والتفاعل بينهما.

تتمثل هاتان الأطروحتان حول مركزية تتجلى في الإيمان الديني التوحيدي، وتتمثل الأطروحة الثانية في «مركزية الإنسان» والفاعلية العقلية التي يمتلكها، وكان لكل من هاتين الأطروحتين لحظات وتجليات وتأويلات مختلفة، انعكست آثارها على الإنسان وأنظمة الحكم والسلطة والفلسفة وعلوم الطبيعة.

كان من نتائج المنافسة بين الروح والعقل الإيماني، وبين الروح والعقل البشري الحديث، الجدل بين المقدس والدنيوي، فاستهدف الدنيوي والحديث تهميش التقليدي تدريجياً؛ بهدف إزاحته كلياً أو الإبقاء عليه في إطار المجال الخاص، في حين أن الديني والمقدس كان يحاول استعادة مواقعه التي فقدها في خضم هذا الصراع، نتيجة اتجاه الحداثة صوب العلمانية وفصل الدين عن الدولة وحصر الدين والتدين في المجال الخاص.

يطرح صلاح سالم في مواجهة هذه الثنائية «نداء استغاثة» لإنقاذ البشرية من الغرق في طرفيها الديني والعلماني، ويتمثل مضمون هذا النداء في اقتراح التوازن بين السماء والأرض، بين المقدس والدنيوي، من خلال أسيس «روحانية مؤمنة» تسمو بالنفس البشرية وبالأخلاق الإنسانية سمواً يجعلها في موقع المصالحة مع ذاتها ومع الآخرين، ويوفر مرجعية قيمية ونموذجية للمزاوجة بين العلم والإيمان، ومصالحة ممكنة واقعياً وفلسفياً بين الفهم السامي للدين وبين منجزات العلم والعقل والحداثة.

ويرتكز هذا التصور في الكتاب على أسس عدة من بينها، أن معظم الفلسفات التنويرية والمادية والتيارات السياسية يبدو وكأنها لم تفلح في إزاحة الدين من المجال العام، حتى في صورها الأكثر راديكالية في مناهضة الدين كالعلمانية الكمالية في تركيا والعلمانية اليعقوبية في فرنسا، حيث عاد الدين ليشغل مكانته في هذه المجتمعات، ويلبي الحاجة العميقة للتدين والإيمان.

وبالمقابل، فإن ظهور الحاجة العميقة إلى الدين تعود في جانب منها إلى ما أسماه أحد الباحثين الفرنسيين «مديونية المعنى» إزاء الأديان، فنحن مدينون للأديان بمعنى حياتنا ووجودنا، وأن ثمة حاجات روحية عميقة لا يمكن لغير الدين والإيمان الاستجابة لها.

فثمة قضايا كالموت والحياة والبعث والحساب وغيرها من القضايا التي تؤرق الوجود الإنساني لا يمتلك غير الدين إجابات مطمئنة عليها، وهذا لا يفترض بالضرورة الطعن في النظريات العلمية والتشكيك فيها، تلك النظريات التي تقدم تفسيرات وتصورات عن نشأة الكون.

عندما تقرأ كتاب «جدل الدين والحداثة» لن تخرج منه كما دخلت أول مرة، فسوف يؤرقك وسيدفعك إلى مزيد من التفكير والتأمل ويفتح لك الباب للخروج من أسر هذه الثنائية أو على الأقل محاولة الخروج.

Email