"أميركا".. واستشراف كيشور محبوباني

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أبريل 2007 نشرت «البيان» تباعاً ترجمة (Beyond the age of innocence) ما بعد عصر البراءة، للبروفيسور كيشور محبوباني، وتمر السنون فإذا ما ورد في الكتاب يجسد لنا كل التداعيات المرتبطة بحادثة الفيلم المسيء لأشرف خلق الله جميعاً المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما يعيد للأذهان إسقاطات حقبة التسعينات والآثار التي صاحبت قنبلة البيروسترويكا، التي فجرها غورباتشوف وبها انتهى عصر الحرب الباردة وانفتح الباب على مصراعيه لدخول تيار العولمة، كما ظهرت في الأفق طلائع النظام العالمي الجديد، بزعامة القطب الأوحد الولايات المتحدة الأميركية.

وتمر السنوات وكأن محبوباني قد تنبأ بالمستقبل، بعد قراءته الموضوعية لمسار خط التاريخ السياسي للعالم المعاصر، في وقت ظن الناس أنه مع نهاية الحرب الباردة سيشيع السلام، وستشهد البشرية استقراراً مصحوباً بنشر مبادئ الديمقراطية وسيادة مفاهيم حقوق الإنسان والشفافية والاستدامة.

يقول المؤلف: للأسف مع طلائع الألفية ومع بداية خريف السنة الأولى، نفاجأ بحادثة المركز التجاري العالمي في منهاتن، فإذا بكل الموازين تتبدل، وبدأت ملامح صورة جديدة للعالم تتشكل عندما رفعت أميركا العصا الغليظة في وجه عدو جديد أطلق عليه جزافاً «الإرهاب الدولي»، فإذا بالعالم كله يصاب بحالة اضطراب، فشعرنا أننا نساق قسراً إلى حيث لا ندري ولا نعلم!

وعلى الطرف الآخر من المعادلة، ظهر مؤلف آخر بعنوان «الأمة المارقة» لكلايد برانستوتتش، أفرد فيه كاتبه الكثير من الممارسات الخاطئة للسياسة الخارجية الأميركية، وهي سياسات تبنى على المعلومات الخاطئة التي تؤدي إلى مواقف خاطئة، ولا جدال في أن نتائجها تكون كذلك، بدءاً من ورطة فيتنام وانتهاءً بمعضلة العراق، التي روجت ثم صدقت وسائط إعلام أميركا أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، أكذوبة أطلقتها وراحت تبحث عنها عبثاً في بلد ليتم احتلاله ثم تدميره، وتجري الآن عملية تفتيته.

ولم ينسَ الكاتب التدخل السافر لأميركا في مرتفعات أفغانستان، بحجة القضاء على أسامة بن لادن، وها هي أميركا زعيمة النظام العالمي الجديد تستثير العالم الإسلامي ضدها، بسبب انتهاج سياسة النتائج غير المتوقعة، كما أسماها مؤلف الكتاب، وتعني أن يتم السماح بنشر أكاذيب وأباطيل تنال من ثوابت ملايين المسلمين وتسيء إلى رموزهم الدينية (!)، بحجة حرية النشر، ثم يعلو صوتها دفاعاً عن رعايا أميركا في الخارج طلباً لحمايتهم!

وفي ذلك يقول الكاتب، إن الإدارة الأميركية تحصد دائماً نتائج ما تزرع من أخطاء، ولكن بعد فوات الأوان. والمؤسف أنها تماماً كالتلميذ البليد الذي لا يتعلم من أخطائه.. كما يقول الكاتب في ص 201، إن أميركا تملك كل المقومات التي يمكن أن تجعل منها «إمبراطورية» بوسعها قيادة العالم، لكن مشكلة الإدارة الأميركية تكمن في قصر النظر، مع الجهل الفاضح بقيم وعادات وثقافات وديانات الشعوب الأخرى..! وبناءً على ما تقدم.. أيضاً لم ولن ينسى العالم الإسلامي أجمعه الفيلم المسيء لنبينا وخير البشر أجمعين «محمد» عليه صلاة الله وسلامه، والمؤسف أن تسيء إليه حفنة من جهلاء وشذاذ آفاق جمعت لهم العصابات الصهيونية المال لإنتاج هذا العمل الرخيص، الذي استفز مشاعر الملايين من مسلمي شتى بلاد العالم، الذين خرجوا للتعبير عن استيائهم واستنكارهم لهذا العبث الذي خططت له الصهيونية العالمية، بغرض الإساءة للعرب والمسلمين، فلم يجد سوى الرفض والاستهجان.

وكان قد سبق الفيلم المسيء سلمان رشدي بـ«آيات شيطانية»، ولن يمضي وقت طويل حتى يظهر لنا مجدداً «نيكولا باسيلي» آخر، بافتراء جديد تم إعداد سيناريو له من قبل صهاينة إسرائيل وحلفائها المنتشرين في أميركا والدول الغربية، ليتم ترويجه عبر شبكات التواصل الاجتماعي بحجة حرية النشر والتعبير..!؟

فأين إذن حرية النشر من المحرقة اليهودية التي يحرم مجرد الإشارة إليها..؟!

نكتب هذه المقاربة.. وحيالنا الهجوم المسلح الذي استهدف مساء الأحد الماضي مصلين في مسجد مدينة كيبك (شمال شرق كندا) في «المركز الثقافي الإسلامي» الذي قتل فيه خمسة أشخاص على الأقل، وأصيب آخرون بجروح.

ومن المعروف أن هذا المركز، المعروف باسم «مسجد كيبك الكبير» كان قد تعرض في السابق لهجوم معاد للمسلمين، ولكنه لم يوقع ضحايا، بل اقتصر الأمر حينها على تدنيس المسجد، إذ وضع مجهولون يومها رأس خنزير أمام أحد أبواب المسجد خلال شهر رمضان المبارك. يأتي هذا الحادث الإرهابي بالتزامن مع انشغال العالم بتداعيات قرار الرئيس الأميركي «دونالد ترمب» بحظر دخول رعايا 7 دول إسلامية إلى الولايات المتحدة..!

إذن: إن ما وردت الإشارة إليه في كتاب البروفيسور كيشور محبوباني، يعيد للذاكرة مجدداً أن القطب الواحد سيقود البشرية إلى حقبة تحمل معها لا محالة نذر كارثة في الألفية الثالثة، وهى: الحرب العالمية.. أم يا ترى سيحدث العكس بسبب سقوط نجم الديمقراطيين، وبزوغ نجم حقبة الجمهوريين «الترامبية»..؟

يعود المؤلف ليذكّرنا: بأن أميركا لا تزال تمتلك من القدرات والإمكانات والموارد ما يبقي على مكانتها القيادية وبما يخلّف تأثيره وبعمق على أوضاع الكرة الأرضية بأسرها.

والفيصل هنا أن تعيد أميركا حساباتها، وأن تعمد إلى وضع هذه الموارد والإمكانات -ما بين القوى الناعمة أو القوى الصلبةـ في خدمة مصالحها، وبما يحقق كذلك مصالح الأقطار والشعوب الأخرى، وذلك باعتبار أن السلم والأمن والاستقرار وسط أحياء وضواحي هذه القرية الكوكبية المزدحمة، هي في التحليل الأخير عناصر تحقق المصالح الأميركية في نهاية المطاف. فهل يا ترى سيحدث هذا في عهد جمهورية «ترامب» الذي كرر مراراً وتكراراً أن أميركا أولاً وقبل كل شيء؟

Email