الحياة مع أميركا مشكلة ومن دونها مشكلة أكبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ فوز »دونالد ترامب« في انتخابات الرئاسة الأميركية، والعديد من الأسئلة تتوالى والكثير من الألغاز تقفز إلى الأذهان، وكذلك أيضاً العديد من المخاوف ومظاهر الغموض، ولم تقتصر هذه الأسئلة والألغاز والمخاوف على بعض الدول دون بعضها الآخر، أو على الدول الغربية الأوروبية دون بقية الدول، بل شمل ذلك كل الدول وكذلك مختلف دوائر البحث والتفكير والاستراتيجية.

يواجه العالم منذ ذلك الفوز غير المتوقع من قبل وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي العام والمؤسسة الأميركية بشكل عام، السؤال المشكلة والإشكالي أولاً وهو ذلك السؤال المتعلق بهل يمكن للعالم الحياة من دون أميركا؟

بافتراض أن الرئيس المنتخب قد يتمكن من وضع مقترحاته وتصوراته موضع التطبيق خاصة ما تعلق بعزلة أميركا وانكفائها على ذاتها وتخليها عن مقتضيات الدفاع والتحالف مع حلفائها وأصدقائها إن في العالم العربي أو في أوروبا.

ولهذا السؤال وجه آخر يتعلق بما إذا كان العالم قبل »ترامب« قد عاش أزهى عصوره وأكثرها استقراراً وشهد دفعة قوية للقيم الديمقراطية والإنسانية والليبرالية مع هيمنة أميركا وسيطرتها على مجريات الأمور في النظام الدولي خاصة خلال هذين العقدين اللذين اقتربا من نهايتهما في القرن الحادي والعشرين، مع بوش الابن وأوباما وغيرهما؟

لقد اندفعت الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 في حرب بلا هوادة على الإرهاب، أو ما اعتقدت الولايات المتحدة الأميركية أنه كذلك، ووفق التشخيص والتوصيف الذي اعتمدته للدول التي ترعى الإرهاب وتمثل مصدر تهديد لأميركا والعالم، حرب أفغانستان والحرب على العراق التي قامت على أكاذيب لا تزال أصداؤها تتردد حتى الآن.

ولا يزال صانعوها طلقاء وأحرار لم يمسسهم سوء وكأنه مجرد »كذب أبيض« لا يضر ولا ينفع، ولا يقدم ولا يؤخر، في حين أن الأكاذيب التي نحن بصددها دمرت دولاً ومزقت شعوباً وقتلت مئات الآلاف من الضحايا من المدنيين والأبرياء وقسمت الشعب الواحد إلى طوائف متناحرة ومتنابذة وانخرطت في صراعات عصفت بالنسيج المشترك والتاريخي الذي تشكلت في أحشائه هذه الطوائف وعاشت في كنفه مئات السنين.

ويرتبط هذان السؤالان أحدهما بالآخر، ولكل منهم مؤيدين ومعارضين، والقاسم المشترك بينهما يتمثل في أن العالم الذي يواجه الحياة بلا أميركا والسؤال المطروح حول كيف يمكن للعالم أن ينتظم وتستمر دورة الحياة فيه بلا أميركا، هو في حد ذاته الوجه الآخر للسؤال المتعلق بصورة العالم خلال الهيمنة الأميركية، خاصة خلال عقود نهاية القرن العشرين وعقود بداية القرن الحادي والعشرين.

فالتصور الأميركي للهيمنة والسيطرة على النظام الدولي أطلق العنان لمبادئ التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومنح الولايات المتحدة الحق في شن الحروب الاستباقية واهتزاز منظومة المبادئ والقواعد القانونية الدولية بل واعتبار أن القانون الأميركي هو القانون الدولي، كما ترى بعض المدارس والتيارات القانونية في الولايات المتحدة الأميركية، وفضلاً عن ذلك فقد همش حصاد كل ذلك التنظيم الدولي وفي مقدمته هيئة الأمم المتحدة.

والحال أن حصاد هذه المغالاة في الهيمنة والسيطرة بطريقة أحادية ترفض التعددية في إدارة العلاقات الدولية، قد خلق بمرور الزمن مضاعفات وتداعيات شتى إن للولايات المتحدة ذاتها أو للأطراف الصاعدة في النظام الدولي على غرار روسيا الاتحادية التي تعانى من اختراق الغرب لمجالها الحيوي من خلال حلف الناتو .

وكذلك الصين والبرازيل والهند وغيرها من الأطراف التي تشهد تراكماً لمصادر القوة التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية وإن لم تتفوق حتى الآن على ما تمتلكه الولايات المتحدة الأميركية من موارد مادية وعسكرية وتكنولوجية.

فعلى صعيد الولايات المتحدة الأميركية عانى الأميركيون من جراء ارتفاع كلفة هذه الهيمنة والحروب التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية وعدم تناسب نتائجها في الواقع مع التكلفة الباهظة التي تحملها دافع الضرائب الأميركي.

كما أن صورة الولايات المتحدة كانت تتآكل بفعل الاستخدام المفرط للقوة وارتفاع عدد الضحايا من المدنيين وأيضاً الأميركيين ومعتقل »غوانتانامو« وغيره من الممارسات، من ناحية أخرى فإن هذه الهيمنة الأميركية لم تستطع مقاومة ظهور قوى أخرى دولية وإقليمية مارست نفوذاً متعاظماً في الأقاليم المختلفة في العالم.

ومهما كان الأمر فإنه لن يكون بمقدور أحد القطع بما إذا كان على العالم أن يعيش ويحيا بلا أميركا أو أنه سوف يعيش مع أميركا مرة أخرى وإن كانت مختلفة، فلكل من هذين الخيارين أدلة وحجج وتحليلات متعادلة تقريباً وقد يظهر الصراع والتفاعل بينها بصورة ترجح أحدهما على الآخر.

وفي جميع الحالات يبقى أن الحياة مع أميركا مشكلة والحياة من دونها يبدو كمشكلة أكبر.

 

Email