مصر ومقاومة الإرهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستمد مصر أهميتها ليس فحسب من الموقع الجغرافي الفريد بل أيضا من قدرتها وقدرة أبنائها على تشكيل نموذج متكامل في العمران البشري والروحي والتواصل الحضاري والثقافي مع مختلف الحضارات والثقافات من دون أن تفقد هويتها وخصوصيتها، وينطبق ذلك على التاريخ القديم والوسيط والحديث.

ففي التاريخ القديم كانت مصر «فجر الضمير» الإنساني بنظمها وقوانينها وتطلعها للخلود وما وراء العالم الطبيعي الملموس، وفي التاريخ الوسيط ولدى استقبال مصر للديانة المسيحية واعتناقها لهذه الديانة حافظ المصريون على عقيدتهم رغم إرهاب الإمبراطورية الرومانية التي لم تكن قد تحولت بعد إلى الديانة المسيحية،.

وعندما تبنت الإمبراطورية الرومانية العقيدة المسيحية، رفض المصريون عقيدة «التثليث» الذي تبنته الإمبراطورية الرومانية وتبنى المصريون مذهباً مختلفاً يوحد بين «الأب والابن والروح القدس» أو بين «الناسوت» و«اللاهوت» وتعرض المسيحيون المصريون أو مصر المسيحية آنذاك للاضطهاد من قبل الإمبراطورية الرومانية وتمسك المصريون «بالنموذج المصري المسيحي» المخالف لمذهب الإمبراطورية وكان وراء ذلك التمسك بروح الوطنية المصرية والخصوصية المصرية.

وعندما استقبلت مصر الإسلام، أحسنت استقباله ووفادته إلى أرض الكنانة وتحول من تحول إلى الإسلام وبقى من بقى على ديانته المسيحية، اعتنق المصريون الإسلام في عقائده الكبرى والكلية والكونية، وتبنوا مبادئه السمحة في العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وبمرور الزمن احتضن المصريون جميع المذاهب الإسلامية، ولكنهم ظلوا على موقفهم الذي يرفض التمذهب والتعصب.

وفهموا الدين الحنيف بطريقة مختلفة تتميز بالعمق والروحانية والابتعاد عن الطقوسية والشعائرية، وتمكن المصريون من صياغة «نموذج إسلامي» راقٍ لا يعرف التعصب والتطرف أو الاستبعاد والإقصاء.

أما في التاريخ الحديث والمعاصر فقد فتحت مصر الطريق إلى النهضة والتعامل مع الحضارة الغربية الحديثة دون خوف أو وسوسة بل استرشدوا بعلماء المسلمين الأفاضل الذين كانوا يرون في ميراث الآخرين موضوعاً للدرس والتأمل والاقتباس فما يرونه مناسباً لهم أخذوه وما لا يرونه مناسباً تركوه أو انتقدوه.

استطاعت مصر بهذه الروح العبقرية أن تصيغ نموذج ثورة 23 يوليو وعبد الناصر في التنمية والتحرر الوطني والتصنيع وحقوق العمال والفلاحين، وتمكنت من تشكيل جبهة باندونج وعدم الانحياز مع الصين والهند ويوغوسلافيا السابقة، وامتدت آثار هذا النموذج كسابقيه إلى ما وراء حدود مصر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

لقد أدرك الزعيم الراحل عبد الناصر قدرة مصر على أن تفيض على الإقليم والمنطقة ببوصلة تضئ الطريق إلى التنمية والتحرر الوطني الداخلي والخارجي في جدلية قوية تجاوز تأثيرها الزمان والمكان.

في مواجهة مصر الشاملة للإرهاب بمقدور مصر أن تقود نموذجاً لمقاومة الإرهاب ومواجهته، هذا النموذج يسترشد بالخبرة التاريخية لمصر في مقاومة الإرهاب بالقوة تارة وبالفكرة تارة أخرى، هكذا زاوجت مصر في تعاملها مع الإرهاب في التسعينيات بين هاتين الوسيلتين وقد نجحت في ذلك.

كما أن مصر قد طالبت ومنذ وقت بعيد بعقد مؤتمر دولي للإرهاب وعدم احتضان الجماعات الإرهابية من قبل الدول الغربية، ونبهت إلى هذا الخطر وكانت سباقة في هذا المجال أي استشراف الخطر الذي يمثله الإرهاب على العالم.

يستند النموذج المصري لمواجهة الإرهاب على عناصر مهمة في الاستراتيجية الوطنية الشاملة ضد الإرهاب، وفي مقدمتها الوقاية والاستباق أي محاربة التطرف والتجنيد من خلال المعرفة الكاملة والتفصيلية بطرق الدعاية الإرهابية والأدوات التي يستخدمها الإرهابيون وذلك بهدف دمجها في أفق استراتيجي وطني لتنسيق سياسات المواجهة.

أما العنصر الثاني في هذه الاستراتيجية فيتمثل في الملاحقة والحماية وذلك يستلزم تعزيز مناعة الأجهزة الأمنية والمواقع والمنشآت التي تعد أهدافاً للإرهاب وملاحقة الإرهابيين عبر الحدود والتشويش على شبكات التمويل والتسليح والتجنيد ووكلاء هذه الشبكات في الداخل والخارج وتحليل المعلومات وتبادلها بين الأجهزة المعنية والعنصر الثالث في هذه المواجهة فيتمثل في الاستعداد الأمني والنفسي على صعيد الدولة والشعب لمواجهة طويلة مع الإرهاب.

فمن الصعب تخفيض الخطر الإرهابي إلى الصفر في ظل ترابط وتشابك الجماعات الإرهابية وتوسيع شبكات التمويل والتسليح، وذلك يقتضى الجاهزية التامة لمواجهة الإرهاب لحظة بلحظة وسرعة تبادل المعلومات وتنسيق الجهد الإعلامي وتعزيز آليات التضامن مع الضحايا ومساعدتهم وتعويضهم على الصعيد الوطني.

وأخيرا وليس آخرا تقديم شرح واف لسياسات الدولة ومشروعاتها الوطنية، ذلك أن بعض هذه المشروعات لم تحظ إعلامياً بشرح دقيق لآثارها وأبعادها الحضارية الإنسانية رغم أهميتها ووقوعها في صلب المواجهة الشاملة للإرهاب مثل مشروع إنهاء المناطق العشوائية وبناء وحدات سكنية لائقة بحي «الأسمرات» وغيرها، لقد غطى الإعلام هذا المشروع ولكن بطريقة تفتقد إلى العمق في التحليل واستشراف الآثار الإنسانية والحضارية للمشروع، بل كانت التغطية بطريقة تعليمية تعتمد على الحفظ والتلقين وليس الشرح والتحليل والإقناع والاقتناع.

 

Email