متى القضاء على «داعش» فكرياً وسياسياً؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحملة العسكرية الجارية ضدّ «داعش» في العراق، مهمّة جداً، بغضّ النظر عن كلّ الملاحظات التي يبديها البعض لأسباب عديدة. إنّ المشكلة ليست في كيفية تحقيق الحملة العسكرية، بل في البيئة الفكرية والسياسية التي ساعدت وتساعد على وجود ظاهرة «داعش» داخل العراق وسوريا وليبيا، كما الآن في دول أخرى عديدة بالعالم.

إنّ «داعش» الآن، ومعها وقبلها «القاعدة»، استطاعتا استقطاب قطاعات واسعة من شباب العرب والمسلمين، بسبب غياب فعالية الفكر الديني السليم، الذي يُحرّم أصلاً ما تقوم به هذه الجماعات من أساليب قتل بشعة، ومن جرائم إنسانية بحقّ الأبرياء من كلّ الطوائف والمذاهب والجنسيات، بل كل من يختلف معها، حتّى من داخل الوطن أو الدين نفسه.

لقد كان إعلان وجود «داعش» في العراق وسوريا، هو مقدّمة عملية لإنشاء دويلات جديدة في المنطقة، كما حصل من تقسيم للبلاد العربية بعد اتفاقية سايكس- بيكو في مطلع القرن الماضي، ما يدفع هذه الدويلات، في حال قيامها، إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية.

فهل يشكّ أحدٌ بمصلحة إسرائيل ودورها في نموّ جماعات التطرّف الديني، وفي وجود دولة «داعش»؟!، وأين المصلحة الإسلامية والعربية في مواصلة الصراعات والخلافات الفرعية أمام هذا الخطر المحدق بالجميع الآن؟!

ظاهرة «داعش» نمت في بيئة الفوضى والانقسامات الوطنية، وفي وحل جماعات الإرهاب في سوريا والعراق، وهدّدت بوجودها مصير معظم دول المنطقة. لكن عنصر التهديد هنا ليس نابعاً من القوة الذاتية فقط لهذه الجماعة الإرهابية، بل أيضاً من الخلط الذي يحصل حالياً بينها وبين قوى سياسية محلّية معارضة في كلٍّ من سوريا والعراق.

فلو لم تكن هناك أزمات سياسية داخلية، لما وجدت «داعش» بيئة مناسبة لها للتحرّك، ولضمّ عدد من المناصرين لها. فالمشكلة الآن هي لدى من يواجه ظاهرة «داعش» كجماعة إرهابية، ويرفض معالجة أسباب انتشارها في بعض المناطق، وهي أيضاً مشكلة لدى من يراهنون على «داعش» لتوظيف أعمالها لصالح أجندات محلية أو إقليمية خاصّة، بينما هم لاحقاً ضحايا لهذه الأعمال، ويحترقون أيضاً بنيرانها.

تساؤلات عديدة ما زالت بلا إجابات واضحة، تتعلّق بنشأة جماعة «داعش» وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف!. لكن حين تتبرّأ قيادة تنظيم «القاعدة» من «داعش» وممارساتها، فهذا بحدّ ذاته يوضح مستوى أعمال الإرهاب والإجرام التي تمارسها «داعش».

ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية للتنظيم في العراق والشام، بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم «بلاد الشام».

وعدم ذكر تركيا أو الجزيرة العربية أو دول إسلامية وعربية أخرى، طالما أنّ الهدف هو إقامة «خلافة إسلامية»؟!، أليس لافتاً للانتباه أنّ العراق ودول «بلاد الشام»، هي التي تقوم على تنوّع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعة عربية أو إسلامية أخرى في العالم؟!،

ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة لـ «دولة إسرائيل»، التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كـ «دولة يهودية»؟!، ثمّ أيضاً، أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلات طائفية وإثنية، فتكون إسرائيل «الدولة الدينية اليهودية» هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!.

وأيُّ مصير سيكون للقدس وللشعب الفلسطيني ولمطلب دولته المستقلّة ولقضية ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وسط الحروب الأهلية العربية والإسلامية، ونشوء «الدويلات» الدينية والإثنية؟!

أليس كافياً لمن يتشكّكون بالخلفية الإسرائيلية لهذه الجماعات الإرهابية، التي تنشط بأسماء عربية وإسلامية، أن يراجعوا ما نُشر في السنوات الأخيرة عن حجم عملاء إسرائيل من العرب والمسلمين، الذين تمّ كشفهم في أكثر من مكان؟!، أليس كافياً أيضاً مراجعة دور إسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك العلاقات التي نسجتها منذ عقود مع جماعات في العراق، وهي تفعل ذلك الآن مع قوى معارضة في سوريا؟!

لقد حقق «نفخ» تنظيم «القاعدة» أهدافه بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وشهدنا حروباً ومتغيّرات سياسية وأمنية في أمكنة واتجاهات مختلفة، وكان الحديث عن «القاعدة»، وكأنّها شبحٌ جبار يظهر ويتحرّك في أرجاء العالم كلّه من أجل تبرير الحروب والمتغيّرات. الآن، يتكرّر المشهد نفسه مع تنظيم «داعش»، ولا نعلم بعد، أين وكيف سيتمّ توظيف توأم «القاعدة».

لكن الممكن إدراكه، هو أنّ هذه الظاهرة مصيرها الاضمحلال، فهي حركة هدم في الحاضر، لا من أجل بناء مستقبل أفضل، وهي بفكرها وممارساتها، ستجعل مناصريها قبل خصومها أول من يواجهها ويحاربها، وهي قد تخدم الآن مشاريع جهات متعدّدة، لكن سيتّضح عاجلاً أم آجلاً، خدمتها للمشروع الإسرائيلي فقط، الذي لا يرحم أحداً غيره.

حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية ودولية لتجارب معاصرة في العقود الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطراف أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود. ألم تكن تلك محصّلة تجربة «العرب الأفغان»، خلال الحرب على الشيوعية في أفغانستان، حيث كانت نواة «القاعدة» تولَد هناك؟!،

هو درسٌ يتعلّمه الآن أيضاً مَن راهن مِنَ المعارضة السورية على جماعات «النصرة» و«داعش»، فإذا بهم يدفعون الثمن غالياً، نتيجة هذه المراهنة الخاطئة. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا الحرص على الخصوصيات الوطنية والدينية، يبرّر هذه الانقسامات الدموية الجارية في عدّة بلدان عربية. وعلى مَنْ يريدون فعلاً إنهاء ظاهرة «داعش» ومثيلاتها، ويريدون استئصالها من العالمين الإسلامي والعربي، أن يحاربوا فكرها أولاً، وأن يصلحوا حالهم السياسي!

 

Email