عزاء بيريز لا يغفر جرائمه

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا ينبغي أن يمر مشهد وفاة ووداع «شيمون بيريز»، دون تمعن وتأمل محتوى الرسائل التي حفل بها هذا المشهد، الذي يتجاوز مضمونه وما انطوى عليه من رسائل، عواصف الاستنكار والإدانة في مختلف وسائل الإعلام، قراءة الرسائل التي حفل بها مشهد وداع «بيريز»، والحضور الدولي الكثيف، قد تكون أكثر فائدة من الإدانة والاستنكار.

حظي مشهد وداع «بيريز» بحضور دولي كثيف، مثّل أكثر من سبعين دولة، سارع زعماء العالم، أوروبا وأميركا على نحو خاص، للمشاركة في هذا المشهد، وأولى الرسائل التي ينطوي عليها هذا الحضور الدولي، تتمثل في القابلية التي يتمتع بها المجتمع الدولي والغربي لنفاق الأقوياء، فلو كانت إسرائيل ضعيفة، لما اهتم المجتمع الدولي بها، ولكن لأنها قوية ومؤثرة في الإقليم والسياسات العالمية بامتداداتها الصهيونية واليهودية في جميع أنحاء العالم، يتعاطف معها الأقوياء في العالم، وينشدون رضاها.

والوجه الآخر لنفاق الأقوياء، هو تهميش الضعفاء والاستخفاف بهم وبمعاناتهم، ووضع هذه المعاناة في آخر اهتماماتهم، وتلك لعمري نقيصة أخلاقية وإنسانية في نظام القيم السائد عالمياً، فالضعفاء أولى وأحق بالتعاطف والاهتمام، ولا شك أن اقتصار الاهتمام والتعاطف على الأقوياء، هو نذير شؤم وانحطاط، لن يبرأ منه العالم والعلاقات الدولية، إلا عبر صحوة أخلاقية وهزة عنيفة، تضع هذه الأخلاق موضع التساؤل والاتهام.

أما ثاني هذه الرسائل التي انطوى عليها هذا المشهد، فيتمثل في تبني العالم والمجتمع الدولي للرواية الإسرائيلية وأسسها الأخلاقية والفكرية، حول نشأة الصراع العربي الإسرائيلي ومجرياته، وكذلك تهميش الرواية العربية لمجريات الصراع ومحطاته التاريخية.

وحصاد ذلك في الممارسة السياسية العملية، يتمثل في الانحياز لإسرائيل ودعمها مادياً ومعنوياً، وتبرئتها أخلاقياً من الجرائم التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني، ومن ناحية أخرى، الحديث الفارغ عن السلام والعملية السلمية والدولة الفلسطينية، دون دعم حقيقي وضغوط ملموسة على إسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتماد الرواية الصهيونية والإسرائيلية، يفضي عملياً إلى قيام إسرائيل بانتهاك القرارات الدولية وتفريغها من مضمونها، استناداً إلى الدعم الغربي اللا محدود، بل وقيام الغرب بدفع ثمن وتكلفة جرائمها عبر الدعم الممنوح للسلطة الفلسطينية، والذي يستهدف الإبقاء على الوضع الراهن، أي استمرار إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية، وعلاج الغرب لمضاعفات هذا الاحتلال.

ومن الطبيعي أن يصبح «شيمون بيريز» في منظور الرواية الإسرائيلية المعتمدة دولياً «رجل سلام»، وأسهم في بناء الدولة العبرية في مختلف مراحلها، في حين أنه في الرواية العربية الفلسطينية «قاتل» ومجرم، على غرار الكثيرين ممن يسمون مؤسسي دولة إسرائيل.

فالرجل بريء مما يصفون، ويحمله هذا الوصف بأكثر مما يستطيع، وبقداسه لا يستحقها إلا من وجهة نظر مواطنيه وبنى جلدته، أما بالنسبة للآخرين، وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، سيظل يشغل مكانته «كقاتل» «ومجرم» إلى أبد الآبدين.

«بيريز» اليهودي البولندي، كان نموذجاً للمستوطن الغربي العنصري الاستعلائي المتغطرس، الذي يحتقر السكان الأصليين، ويبرر أفعاله وأعماله استناداً إلى معايير أخلاقية عنصرية غربية، مألوفة لدى غلاة المستوطنين والمستعمرين.

إسرائيل تتأكد يوماً بعد يوم أنها جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية بجميع أوجهها العلمية والعنصرية والاستعمارية والأخلاقية، ويتمثل الفارق الوحيد بينها وبين الغرب، في الإفاقة الظاهرية للغرب، وخطابه الجديد حول حقوق الإنسان والتعددية والاعتراف بالآخر، ذلك الخطاب الذي يزخر بالتناقض في الممارسة العملية، ويحفل بازدواج المعايير في اللحظات الحاسمة، عندما تتعارض مصالحه مع قيمة ومبادئه، ولا يجد حرجاً في الاصطفاف وراء المصالح، والتمترس خلف مرتكزاتها الأخلاقية والنفعية والبراغماتية.

في الوقت الذي تتعرض فيه صورة إسرائيل للتآكل والانتقال من خانة الضحية التي شغلتها منذ قيامها، إلى خانة جلاد الشعب الفلسطيني، من جراء المقاطعة الأكاديمية وغير الأكاديمية من بلدان عديدة، تجيء مناسبة وفاة أحد مؤسسيها، لتغيب هذا الانتقال وتشوش عليه.

Email