التّعليم مفتاح ازدهار واستقرار الشّعوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

انسجاماً مع تعزيز خيارات واستراتيجيات التّنمية الخاصّة بشعوب الدّول النّامية القائمة على نشر المعرفة ودعم قطاعات التّعليم، أطلقت اللّجنة الدّولية لتمويل فرص الحصول على التّعليم العالمي توصياتها الجديدة من حيث الالتزام بتوفير وتحقيق فرص التّعليم بين الإناث والذّكور على أسس متساوية ومتكاملة.

وكنتُ قد حظيتُ في العام الماضي بشرف العمل بشكل متقارب ووثيق مع قادة الدّول، وصنّاع السّياسات، ولفيف الباحثين، وأصحاب الشأن المتخصّصين في سبيل دعم عمل اللّجنة في صياغة رؤية طموحة تهدف إلى إلحاق جميع الأطفال والأجيال الشّابة من الجنسين ودمجهم في المنظومة التّعليمية في سبيل تلقّيهم العلم كما أقرانهم من أبناء جيلهم.

لقد باتت مسألة توفير فرص التّعليم المتكافئ للشرائح الشّبابية بين الجنسين من أكثر الأمور إلحاحاً في يومنا هذا، ولا أُخفي القول بأنها من أمّهات المسائل التي أحملُ لواءَها، وأسعى لإنجاز نجاحات على صعيدها، حيث لا يجوز لنا بعد اليوم التّغاضي قط عن الانعكاسات السّلبية التي يولّدها عدم تكافؤ فرص التّعليم بين الجنسين على المجتمعات الإنسانية، إنْ من حيث انتشار الفقر، أو تدهور المستويات الصّحية، أو تأثّر الاستقرار المجتمعي بشكل عام.

وأدعم قولي هذا بمخرجات الدّراسات البحثية في هذا الإطار، والتّي تبيّن أنّ انعدام تكافؤ فرص التّعليم بين الجنسين لهو أكثر فتكاً من الأمراض السّريرية، وأنّه كلّما ارتفعت مستويات تفاوت الفرص التّعليمية بين الجنسين، ارتفعت معها فرضيّة تفشّي الصّراعات والنّزاعات، بما يفضي بنا إلى الجزم القاطع بأنّ توفير مستويات تعليمية ذات جودة رفيعة يشكّل العامل الجوهري، بل الأهمّ، في ردم الفجوة التّعليمية بين الجنسين من الأطفال وصقل مهاراتهم، وتحديد مساراتهم المستقبلية، والحدّ من الانعكاسات السّلبية عموماً، ذلك لأنّ التّعليم لا يشّكل فقط المدماك الأساسي للحدّ من مستويات الفقر، بل يساهم في تعزيز الرّخاء الاقتصادي وإحراز التّقدم الاجتماعي، كما وأنّه المحّرك الأساس لبناء مجتمع مستقرّ تسود فيه قيم التّسامح.

ولهذه الأسباب مجتمعةً، جعلت دولة الإمارات العربية المتحدة التّعليم، وبشكل خاص تعليم الإناث، ركناً قائماً بذاته في مسيرة تقدّمها، تسهر القيادة الرّشيدة على تطويره بعين يقظة... وها هي دولة الإمارات اليوم تقطف ثمرة نجاحها. فمنذ قيام اتّحادها الفتيّ، منذ أكثر من أربعين عاماً، دأبت الدّولة على ضمان أرقى مستويات التّعليم وأجودها لأبنائها، لترفد سوق العمل فيها بالكوادر الوطنية الشّابة المصقولة علماً والمجبولة ثقافةً، مع بروز الكوادر النّسائية وتمّيزها في مختلف القطاعات المدنّية والاقتصاديّة، وحتى في قلب المعترك السياسي.. لتصبح الذّراع الدّاعمة للمسيرة النّهضوية المتصاعدة التي تشهدها الأمّة.

والحقّ أنّ مسيرتنا المتمّيزة في إرساء التّعليم على قدم المساواة، لم تكن باليسيرة؛ إلاّ أنّ اللّه العليّ القدير قد منَّ على هذه الأمّة، قيادةً رشيدةً لها نظرة ثاقبة، يقود مسيرتها قادة متبَصّرون، يعملون على إرساء التّشريعات المناسبة، وتوفير الموارد اللاّزمة في هذا الشّأن، متفهّمون كلّ التّفهم لكافّة التّحديات المجتمعيّة، في سبيل تجاوز كلّ العقبات باتجاه إحداث التّغيير المطلوب والملحّ، وتحقيق المساواة في فرص التّعليم بين أبناء وبنات الوطن. وأخيراً، خطت الدّولة خطوة متقدّمة نوعيّة، من خلال تأطير هذا القبول والتّفاهم المجتمعي في منظومة قوانين وتشريعات مسنونة.

وإنّني، من منطلق الدّور الذي مُنَحت شرف تولّيه من خلال مسؤولياتي كوزيرة الدولة للتّسامح، أصدقكم القول بأنني أرتئي العمل الوثيق مع قطاع التّعليم وغيره من القطاعات، في سبيل ترسيخ دولة الإمارات دولةً تتناغم فيها مفاهيم التنّوع والاحترام والتّفاهم.

ومن منطلق التّجربة الإماراتية، فإنّه يسرّني جداً تركيز اللجنة الدّولية لتمويل فرص الحصول على التّعليم العالمي في توصياتها على «حصول جميع الأطفال على فرص التّعلم المتكافئ»، حيث إنّ المجتمع لن ينعم بهذه الفرص بشكل كبير إلاّ بإرساء التّعلم إرساءً متساوياً ومتوازياً بين الجميع، ممّا يحتّم علينا العمل بقدم وساق، من أجل اتخاذ خطوات إضافية، وإتاحة أكبر قدر من الموارد التـّعليمية، في سبيل إدماج ودعم الأطفال المعرّضين للحرمان من نعمة الّتعلم، وأقصد بهم أبناء الطبّقة الفقيرة وأبناء المجتمعات التي تشهد تمّييزاً مجحفاً بحق تعليم البنات، وأيضاً سائر المجتمعات المشابهة.

ولا بدّ لنا من التّنويه إلى ضرورة تطبيق مبدأ الشّمولية العالمية بشكل متدرّج، وذلك من خلال التّوسع في توفير الجودة التّعليمية للجميع، ومنح أولوية خاصة لاحتياجات الفئات المحرومة من أجل ردم الفجوة التّعليمية. وفي ترجمة هذا القول، فلقد بيّنت الدّراسات بأن زيادة فرص التّعليم بين الجنسين والتّساوي بينها، وتحديداً من أوّل مراحل الطفولة، لهي الطريقة المثلى لمحاربة الحرمان من التّعليم. كما أنّ تعليم الإناث، وكما يعلم جميعنا، يقلّص من نسبة الوفيات بين الأمّهات والأطفال، ويحدّ من معدّلات الإنجاب، ويعزّز بالمقابل المستويات الصّحية والاقتصادية، بما يعود بالنّفع الكبير على المجتمع، وكلّها مكتسبات اجتماعيّة من شأنها رفع معدّلات التّعليم بين الإناث، وخلق حلقة متواصلة تحمل انعكاسات إيجابية، حيث إنّ معالجة مسألة النّمو السّكاني المطّرد، وتعزيز المستويات الصّحية على سبيل المثال، من شأنه جعل تحقيق مستهدف التّساوي في التّعليم بين الجنسين أمراً ممكناً وواقعياً.

وفي الوقت الذي يتعيّن فيه على حكومات الدّول الاضطلاع بالمسؤولية الأساسية في توفير التعّليم الشمولي للجنسين وبالتّساوي، والدّول النّامية إدماج أولويات الّتعليم الملحّة في مشاريع إنفاقها العام، لا بدّ للمجتمع الدّولي من أن يكون على أهبة الاستعداد لرفد مستلزمات التّعليم عند الاقتضاء. ولنعلَمْ بأنّ عدم المساواة في التّعليم بين الجنسين ينعكس سلباً علينا جميعاً، ويشكّل حجر عثرة في وجه التّقدم الاقتصادي وعاملاً مزعزعاً للاستقرار العالمي.

وتأكيداً على الدّور المحوري للتّعليم، حملت دولة الإمارات العربيّة المتّحدة مشعل العِلم والـتّعلم لتتجاوز به حدودها الوطنّية، وتحلّق به على مستوى عالميٍ شامل. ويتجّسد هذا الالتزام من خلال دعم الحكومة بقيادتها الرّشيدة تحسين فرص التّعليم الأساسي للجنسين، من خلال عطاءاتها ومنحها مبلغاً وقدره 555 مليون دولار أميركي بين أعوام 2011 و2015. كما أنّ الحكومة الإماراتية أسهمت من خلال مؤسساتها الإنسانية المختلفة كمؤسسة (دبي العطاء)، في مساعدة ملايين الأطفال في أكثر من (30) دولة في العالم، في دعم حقّهم بالالتحاق بفصول التّعليم الأساسي في المدارس.

ودولة الإمارات حريصة كلّ الحرص على المشاركة الرّائدة في نشر مفهوم «التّعليم في الحالات الطّارئة»، والمساهمة في توفير الحماية المعرفية والبيئات التّعليمية الآمنة لأطفال الأزمات والحروب في البلدان ذات السّلام الهشّ، في إطار عمل إنساني وتنموي يضمن حقّ جميع الناس في تعليم نوعي وآمن في حالات الطوارئ ومرحلة التّعافي بعد الأزمات في البلدان المتزعزعة وتلك التي تضربها الكوارث الطبيعية.

قد يكون ما تسعى الّلجنة الدّولية لتمويل فرص الحصول على التّعليم العالمي لتحقيقه مسعىً طموحاً إلى أقصى الحدود، ولكّنه يشكّل مطلباً أساسياً لا يستحيل بلوغه وتحقيقه. ويبقى أنّ نجاحه مرتبط من دون أدنى شك بالقيادة القويّة والحكيمة، وبأيادي العزم المتشابكة من أبناء هذا الوطن، وبتكاتف جميع مؤسسات القطاعين العام والخاص على المستوى المحلي، وأيضاً المنظّمات العالميّة، وغيرها.

إنّنا في سباق مع الزّمن لنحقّق الغاية المشتركة المنشودة، والتي تتجلّى في إرساء أسس العدالة والإنصاف والمساواة في التّعليم بين الجنسين، والمبنية على قيم الـتّسامح ومبادئ الاحترام، إلى أن تينع جهودنا فنقطف جميعنا، كأسرة عالمية واحدة متّحدة، ثمار عملنا الإنساني الهادف.

Email