الأفكار والتاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

يجب ألا نحمل الأفكار وحدها مسؤولية ما جرى ويجري في التاريخ، كما يجب ألا نبرئ الأفكار من مسؤوليتها، الأفكار هي إرادات بشر قررت أن تنهض بالتاريخ.

إذ لا إرادة دون أفكار، وإذا لم تستطع الإرادة أن تحقق أفكارها فهذا قد يكون عائداً للأفكار ذاتها من حيث عدم قابليتها للتحقق، أو بسبب شروط موضوعية حالت دون ذلك رغم واقعية الأفكار، ففي التاريخ شروط كثيرة وأسباب هائلة يجب أن نفسر فيها المآل التاريخي الذي جعل مصيرنا على هذا النحو..

وجعل من أفكارنا عاجزة عن التحقق، فليس أفكار محمد عبده الإصلاحية ولا أفكار فرح أنطون العلمانية هي المسؤولة عن فشل النهضة العربية، بل هناك شروط خارجية وداخلية كانت أقوى من أفكارهما، يوجد سيرورة للعالم، هكذا جرى، مجتمع منته من حكم الإمبراطورية العثمانية التي انهارت بفعل قوى عالمية وبفعل التفكك الداخلي للعثمانيين..

إضافة إلى ظهور النزعات الانفصالية المتعددة في المنطقة، ناهيك عن تخلف الإمبراطورية العثمانية نفسها، كما أن الإصلاحات التي أرادوا القيام بها قد فشلوا في تحقيقها، ثم الحروب التي قامت بها الدولة العثمانية في تلك المرحلة، خاصة بينها وبين روسيا ثم الحرب العالمية الأولى وظاهرة الاستعمار كل ذلك حطم أحلام النهضويين العرب.

المنطقة العربية كانت خارجة من فترة انحطاط الدولة العثمانية وليس من فترة ازدهارها، والمجتمعات كانت مغلقة ومتخلفة، والقرية منعزلة وبعض المثقفين بسبب من التجارة وأسباب أخرى من علاقات بالغرب استطاعوا أن يأتونا بأفكار تنويرية، لكن لا تنسى أننا خضعنا بعد انهيار الدولة العثمانية مباشرة لإرادة غربية خارجية متمثلة بالاستعمار البريطاني والفرنسي، وهما من تحكما بالمصير، تصور أن ألفين إلى ثلاثة آلاف جندي فرنسي احتلوا سوريا ولبنان آنذاك، هذا يدل على حجم المأساة في الواقع العربي في تلك الفترة.

الجيش الإسرائيلي الآن يتوجه كله نحو الضفة الغربية وغزة ويجد صعوبة شديدة إذ لا يستطيع أن يفرض إرادته على إرادة شعب اختار الكفاح كي يظفر بالحياة.

غالباً ما يقال من قبل بعض من يرى الواقع والعالم رؤية سطحية، أن المثقف مسؤول عما يجري في الواقع، لا شك في أن المثقف تزداد أهميته بصعود المجتمع بقوى فاعلة، حينئذ يصبح أكثر فاعلية، ومن واجبه المعاندة وتقديم أفكار جديدة لتغيير العالم والواقع، لكن إذا كان العالم ذاته لا ينطوي على قوى تغيير فماذا يصنع المثقف؟ ربما تأتي أجيال أخرى في المستقبل وترى ما لديه من أفكار وتحولها إلى وعي جديد في العالم.

خذ الآن ما يجري في بلدان الربيع العربي ماذا يستطيع المثقف أن يفعل في مجتمعات كهذه، وأمام قوى تقف في وجه التغيير؟

ففي ظل دمار شامل للوطن السوري يُجري حاكمه انتخابات يفوز فيها بنسبة تفوق التسعين بالمئة، ما هذا الزيف؟

لا شك في أن المثقف الذي طرح الأيديولوجيات الشمولية التي مهدت لثورة مسؤول بسبب أنه كل أيديولوجيا شمولية تنطوي مسؤولية مباشرة عن واقع الحال، لكنه أحد المسؤولين وليس وحده الذي ساعد على نمو بذرة الاستبداد، ولكن أن تحكم باسم الأيديولوجيا الشمولية وتنفي كل ما عداك فهذه جريمة، إذ يصبح الآخر غير موجود كونك تنفي الاختلاف، وبهذا يصبح الاختلاف مذمة، يصبح المختلف مع أيديولوجيتك عدواً للوطن، يستحق النفي بأشكاله كلها، وبالمعنى الشامل للكلمة نفي، ونفي الآخر.

هذا كان حال الأيديولوجيا الماركسية في الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاشتراكية في أوروبا، وهذا أيضاً حال الأيديولوجيا القومية التي حكمت في بعض بلدان الوطن العربي، وهذه حال الأيديولوجيات الأصولية الإسلامية التي تنشط الآن. هنا تغدو الأفكار هدّامة فعلاً..

وقد تصبح مسؤولة عن خراب البصرة، كما يقال، وهنا أيضاً تبرز أهمية الأفكار الواقعية الصادرة عن وعي بالواقع والتاريخ وحركة العالم والإمكانيات المتوافرة في الحياة. وإذا كان صحيحاً بأن الأفكار لا تصنع تاريخاً، لكن الصحيح أيضاً هو أن الأفكار إما أن تساعد التاريخ على الولادة الجديدة أو تعيق تقدمه.

 

Email