السقوط من العلو الثاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم نصحُ يوماً لنجد سريلانكا ولاية أميركية، ولا قبرص جزيرة في المحيط الهادي، كما لم يحدث عبر تاريخ البشرية أن غيرت دولة مكانها لكن حدث كثيراً أن غيرت دول حدودها وإمبراطوريات ابتلعت غيرها. الجغرافيا عنيدة لا تتغير لكن التاريخ سلسلة صراعات بين الإنسان والإنسان. ومن المؤسف أن هذا »الإنسان« لم ولا يتعظ.

فمن كان يتصور أن الرومان الذين احتلوا ربع الأرض، بالكاد يملكون الآن روما وبقعة أرض اسمها إيطاليا، وأن بريطانيا الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس بالكاد تحافظ على المملكة المتحدة بعد أن كانت أرضها تمتد من الهند التي احتلتها من أجل حفنة بهارات وأكياس من الشاي إلى جزر الفوكلاند وحربها مع الأرجنتين من أجل السيادة على جزر تبعد عن لندن آلاف الأميال.

بالمفهوم العسكري فإن إسرائيل، كمشروع صهيوني، تتصرف بعقلية الإمبراطوريات القديمة. فقد اقتلع المشروع شعباً من أرضه (فلسطين) وأحلّ مكانه أناساً من قوميات مختلفة لا يجمع بينها إلا الدين واحتل أراضي من أربع دول عربية.

ورغم مرور ثماني وستين سنة ها هم الصهاينة يبدون متشككين ليس من مستقبل كيانهم الإسرائيلي المزود بترسانة من الأسلحة النووية بل من ضمان وجوده أيضاً.

فقد أرعب الحكومة الإسرائيلية إعلان السلطة الفلسطينية نيتها في تقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية ضد بريطانيا بخصوص وعد بلفور الذي منح اليهود، ممثلين بالحركة الصهيونية، وطناً قومياً في فلسطين التي كانت تحت الاستعمار البريطاني والمسمى الانتداب. وبدأ ساستها وكتابها يتحسسون أساس دولتهم المبني على كذبة »أرض بلا شعب« التي نعتوا بها فلسطين والفلسطينيين.

يقول الكاتب شاؤول أرئيلي في هآرتس إن المتطرفين الصهاينة والذين هم شركاء مركزيون في حكومة إسرائيل الحالية، يحاولون تثبيت شرعية الدولة اليهودية في كل إسرائيل الانتدابية بناءً على الوعد الالهي الذي يرد في الكتب المقدسة »التناخ«..

وبذلك يقوضون عملياً المفعول التاريخي، السياسي، القانوني والأخلاقي في أساس إقامة دولة إسرائيل. إن المطلب الصهيوني بدولة يهودية في »أرض إسرائيل« يستند إلى جملة حجج قبلتها الأسرة الدولية بل وعملت عليها، لتبرير حقيقة أن »مبدأ تقرير المصير لم ينطبق على فلسطين« رغم الأغلبية العربية المطلقة التي تعيش فيه، »بسبب التطلع لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي«، مثلما ورد في تقرير التقسيم في 1947.

في كتاب الانتداب شددت الأسرة الدولية على المفعول التاريخي للمطلب الصهيوني. ففي سياق القول العربي الذي ظهر في صيغة لاحقة من الميثاق الفلسطيني، بأن »الادعاءات بشأن العلاقة التاريخية أو الروحانية لليهود بفلسطين، لا تنسجم وحقائق التاريخ«، تجدر الإشارة إلى أنه في كتاب الانتداب جاء:

»يصدر في هذا اعتراف بالعلاقة التاريخية للشعب اليهودي بفلسطين، وبحقه في إعادة إقامة وطنه القومي في هذه البلاد«. وقد صدر الالتزام لكل اليهود في العالم، وليس فقط لـ 80 ألف يهودي الذين كانوا يعيشون في حينه في فلسطين.

إن مؤيدي القومية الدينية (المتطرفون) لا يريدون ولا يمكنهم أن يتبنوا النهج الذي يقوم على أساس »قانون الشعوب« لأن الأسرة الدولية اعترفت في السنين اللاحقة أيضاً بمطالب العرب.

ففي 1923 أقرت عصبة الأمم إخراج شرق الأردن من نطاق إعلان بلفور حسب المادة 25 من كتاب الانتداب، وسمحت بإقامة مملكة عربية هناك (شرق الأردن). وفي 1947 حسمت الأمم المتحدة، في قرار التقسيم، بإقامة دولة عربية إلى جانب الدولة اليهودية.

المتطرفون في حكومة نتنياهو يقودون المشروع الصهيوني إلى حافة نهايته فبغياب القدرة على مواجهة الحقيقة فإن الأسرة الدولية تعترف بالمطلب الفلسطيني وأكثر من نصف الإسرائيليين يؤيدونه، لكن مؤيدي الفكرة القومية ـ الدينية يتشددون في مواقفهم.

ويدفعهم فشلهم ويأسهم إلى العمل على سلسلة طويلة من القوانين الجديدة، التي تحمل مؤشرات الفاشية ما بعد الحرب العالمية الأولى: العسكريتارية، مناهضة الثقافة، كراهية الغريب، قمع الفرد، قمع النساء، حرب خالدة، اتهام محبي السلام بالخيانة، استغلال الأزمات الاجتماعية وغيرها.

آخر هذه الممارسات القانون الذي وافق عليه الكنيست بشرعية التصرف بأملاك الغائب والذي يجيز للحكومة وضع يدها على آلاف الدونمات ومئات البيوت التي أُجبر أهلها الفلسطينيون على مغادرتها سواء في حرب 1948 أو 1967.

إن الادعاءات التي يجب تكرارها ليست تلك التي ترى بالشعب اليهودي شعباً مختاراً، علوياً على الشعوب الأخرى، وإن البلاد وعد بها من الخالق، كما يعتقدون، بل بروح التواضع والأخلاق، الادعاءات القانونية، السياسية، التاريخية والأخلاقية التي نجحت في اختبار »قانون الشعوب«.

يجب أن نعلم بأن هذه الحجج سارية المفعول فقط إذا ما اعترفنا بكونيتها وبحق الحركة الوطنية الفلسطينية بدولة خاصة بها ـ والتي اعترف بها هي أيضاً في »قانون الشعوب«. أما تجاهل الحل الوسط اللازم والاعتراف المشترك والمحاولة اليائسة للتمسك بـ »حقيقة« مريحة لجهة واحدة فقط فتدحر إسرائيل إلى خارج حدود الأخلاق الكونية وتلفظها من أسرة الشعوب.

لقد خضعت معظم دول الغرب للإغراءات والمال والإعلام ولتضخيم الهولوكوست، لكن الكثير من هذه الدول بدا يثقل ضميرها، إن الكيان الصهيوني الذي دعموا إنشاءه وتسليحه ما هو إلا نسخة حديثة من الفاشية والنازية باعتراف جنرالات متقاعدين وساسة ومحللين إسرائيليين.

 

Email