مصر والصندوق

ت + ت - الحجم الطبيعي

مريض يذهب إلى عيادة الطبيب، وهو لا يتوقف عن السعال من فرط التدخين. وأثناء مخاطبته للطبيب يستمر في إشعال سيجارة بعد أخرى. ثم يقول للطبيب«أنقذني أرجوك، ولابد أن تصف لي حالا العلاج، ليس من أجلي فقط بل من أجل أولادي الصغار محدودي الدخل!».

الحل واضح وضوح الشمس ولا يكاد يحتاج إلى طبيب من أي نوع، بل يحتاج فقط إلى قوة إرادة، بأن يمتنع الرجل فوراً عن التدخين. وقد يحتاج الأمر في الغالب، بعد التوقف عن التدخين، إلى دواء لهذا الجزء من الجسم أو ذاك.

نحن جميعاً نعرف أن تراجع الاقتصاد المصري لا ذنب لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي فيه، بل هي تركة وإرث ثقيل قبل الرجل بشجاعة تحمل مسؤوليته في ظرف لم تجد مصر أمامها من تثق فيه سوى هذا الرجل، وصل الاقتصاد إلى هذه الحالة بسبب تدهور الأمن والسياحة، لمدة تزيد على خمس سنوات، وانخفاض الإنتاج والاستثمار..

وزادت البطالة، وزاد عجز الموازنة العامة، فزاد الدين المحلي، وقال كثير من الاقتصاديين إن تحقيق الهدوء والسلام في الشارع المصري، وعلاج مشكلة السياحة لا يحتاجان إلى معجزة، بل هناك ما يمكن عمله إزاءهما،. والآن يقول المريض إنه يجب أن يذهب حالا إلى الطبيب، وحاله كما وصفت، في أشد ما يشعر به المرء من الأسى، وما أشد ما يثيره هذا من الدهشة.

ولكن موقف الطبيب ليس أقل غرابة. لقد قبل الطبيب (أي صندوق النقد الدولي) استقبال المريض وهو بهذه الحالة. وقد يقال إن هذا أمر طبيعي ومفهوم، فهذه مهمة أي طبيب على أي حال. ولكن يجب أن يثير هذا في حد ذاته انتباهنا، إذ يلفت نظرنا أن هذا الطبيب، باتخاذه هذا الموقف، لا يكون بعيداً عن الشبهات.

إن الصندوق يتعلل عادة في مثل هذه الحالات بالقول بأنه «لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول»، وهو قول غريب لأنه لا يلبث بعد هذا أن يتدخل في أخص الشؤون الداخلية للدول، كالإصرار على رفع الدعم أو تخفيض سعر العملة، بل ويصر على «الخصخصة».

ويتظاهر (أي الصندوق) بأنه لا يدري ما يمكن أن يفعله كل هذا بمحدودي الدخل، أو يقترح أشياء لصالح محدودي الدخل (كشبكات الحماية)، وهو يعرف جيدا أن ما يطبق منها لا يكفي بالمرة، وأن الفساد الشائع يجعل مثل هذه «الشبكات» عديمة الأثر تقريباً.

أو يدعو الصندوق إلى استبدال الدعم النقدي بالدعم العيني، (لأن النظرية الاقتصادية تقول إن هذا أفضل) بينما يعرف جيدا أنه ليس هناك من طريقة عملية لحصر من يمكن أن يعطي الدعم النقدي أو الوصول إليهم. الصندوق إذن يعرف جيدا ما سوف تنتهي إليه توصياته إذا أخذ بها ولكنه يتظاهر بأنه لا يعرفها، الطبيب الوقور المحايد يصف دواء يعرف جيدا، وهو يرى المريض بهذه الحالة، أنه لن يؤدي إلى الشفاء، طالما أن المريض لم يتوقف عن التدخين.

ولكن من أكثر الأشياء مدعاة للأسى والدهشة، أن الطبيب، أمام هذه الحالة ينصح المريض باستئصال إحدى الكليتين! لماذا يا رجل؟ الكلية سليمة ما زالت تعمل.

ولكني بصراحة أشك في أن الطبيب له علاقة مشبوهة ببعض المشتغلين بتجارة الكلى. إني أقصد بهذا إصرار صندوق النقد الدولي على «الخصخصة» فهو علاج أشبه في رأيي باستئصال جزء سليم من جسم المريض، وربما مريض بعض الشيء لكنه قابل للعلاج.

القطاع العام في مصر فعلا في حالة يرثى لها، لأسباب قديمة وحديثة. أما القديم منها فيعود إلى اللجوء في الستينيات إلى تأميم ما يجوز ومالا يجوز تأميمه، لأسباب سياسية وليست اقتصادية..

كما يعود إلى إرهاق المشروعات التي كان من المقبول تأميمها، بعمالة زائدة عن الحاجة بسبب ضعف النمو بصفة عامة، الذي يعود بدوره إلى عوامل خارجية وأخطاء داخلية. ولكن أسباب ضعف أداء المشروعات العامة في مصر لا تختلف كثيرا عن أسباب متاعب القطاع الخاص وإحجامه عن التوسع والاستثمار.

علاج القطاع العام ممكن إذن بنفس الأدوات (تقريبا) التي يحتاجها تنشيط القطاع الخاص وتشجيعه، وهو ما يسعى نظام الرئيس السيسي لتحقيقه الآن بإدارة حكومية رشيدة، واستقرار قانوني وسياسي، واحترام القانون، ومحاربة الفساد، وترشيد السياسة التعليمية بحيث تصبح في خدمة الاقتصاد وليست عبئاً عليه، وعدم تبديد الإنفاق الحكومي على مالا ينفع، لا ينفع القطاع العام ولا الخاص...الخ.

مصر على طريق العلاج الصحيح سواء بمساعدة صندوق النقد الدولي أو بدونها، ونحن أدرى بمشاكل اقتصادنا وأمراضه، والأجدر على حلها وعلاجها.

 

Email