ضبط الفتوى في الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

الفتوى شأنها عظيم، وخطرها جسيم، ولذلك حذر الإسلام من التجاسر عليها، واعتبر القول بلا أهلية من عظائم الذنوب، والنصوص كثيرةٌ في التحذير من ذلك، قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}، وكان لهذه التحذيرات أبلغ الأثر في واقع الرعيل الأول، فكانوا يعظمون الفتوى، ويعرفون لها قدرها، وكان الواحد منهم يودُّ لو أن أخاه كفاه المؤنة.

يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد كبار التابعين: «أدركت مئة وعشرين من الصحابة، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه، يردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى يرجع إلى الأوَّل».

كما كان من سماتهم التريث والتأني، والتعمق في النظر، وعدم الاستعجال، وحسن التأمل في المصالح والمفاسد، وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، تعرض له بعض المسائل فيجمع لها أهل بدر، وكان العلماء يغرسون هذا المعنى في واقعهم، يقول سحنون بن سعيد، وهو من أشهر فقهاء المالكية، رحمه الله،: «إني لأُسأل عن المسألة، فأعرفها، وأعرف في أي كتاب هي، وفي أي ورقة، وفي أي صفحة، وفي أي سطر، فما يمنعني من الجواب إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتوى»، وما ذلك إلا للخطورة المترتبة على ذلك؛ فالجرأة في الفتوى من أشد المنكرات، وهي مفتاح الشرور، ودليل على قلة العلم وضعف التقوى، والتساهل فيها محرم شرعاً، قال أهل العلم: «يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرف به حُرم استفتاؤه، ومن التساهل ألا يتثبّت، ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر».

وللمفتي شروط كثيرة ينبغي توفرها فيه؛ ليكون أهلاً للفتيا، فلا بد أن تتوفر فيه أهلية الاجتهاد والعدالة، وأن يكون فقيهاً، سليم الذهن، رصين الفكر، متيقظاً، لعظم المنصب الذي يتصدر له، متحلياً بالتقوى مستحضراً عظم المسؤولية. يقول الإمام مالك رحمه الله: «من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها»، وترجم رحمه الله هذا الأمر في واقعه، فكان إذا سئل عن مسألة فكأنه واقف بين الجنة والنار.

وبإزاء هذا المنهج الرباني المشرق الذي يجلُّ الفتيا ويعرف لها قدرها، ظهرت مناهج أخرى تجاسرت عليها، وخاضت فيها دون علم ولا أهلية، فكانت سبباً للجناية على المجتمعات، وكان من أوائل من سلكوا هذا الطريق المظلم الخوارج، حيث اغتروا بأنفسهم، وأطلقوا الفتاوى الجائرة التي تكفر الناس وتستبيح دماءهم، حتى قتلوا عبد الله بن خباب رضي الله عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، ذبحوه، وبقروا بطن امرأته وهي حامل، في وحشية قل لها نظير، حتى رسموا لأنفسهم أقبح صورة، بسبب فتاواهم الإجرامية الفاسدة، وهي صورة تتكرر كلما ظهرت هذه التنظيمات الإرهابية، التي امتلأت ساحتها بالفتاوى الشاذة، التي تكفر الناس وتبيح القتل والإجرام، بل تعدى شؤم هذه الفتاوى عليهم، فأصبح بعضهم يكفر بعضاً، ويستبيح كل فريق قتال الآخر، واضطربت آراؤهم جداً، وكثيرٌ منهم صغار السن، متعالمون مغرورون، حتى إن أحدهم ليتجاسر على الفتيا في المسائل العظيمة والنوازل الكبيرة وكأنه يشرب ماء، وكم نجم عن هذه الفتاوى المضللة من إجرام وخراب وتشويه، ولم تقتصر هذه الظاهرة على التنظيمات المتطرفة فقط، بل شملت تيارات وأحزاباً وكتاباً ومثقفين وغيرهم، وقد يتجاسر الإنسان على الفتيا، ويتوهم أن ما يقوله مجرد رأي، مع أنه ينطبق على ما قال صفة الفتيا، وقد تكون لهذه الفتاوى آثار سلبية وخيمة.

كل ذلك يؤكد أن ضبط الفتوى من المصالح الدينية العظيمة، وخاصة إذا كثر فيها الخائضون، وقد أكد العلماء دور الحاكم في هذا المجال، وأن من صلاحياته ومسؤولياته ضبط الفتوى وترشيدها؛ يقول أحمد بن علي بن ثابت، أحد أئمة العلم رحمه الله: «ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها، وقد كان خلفاء بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوماً يعيّنونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم»، ويقول ابن الجوزي رحمه الله ما معناه: «إذا تعين على ولي الأمر منع من لا يعرف الطب من معالجة الناس فكيف بمن تجاسر على الفتوى وهو لم يتفقه في الدين؟!».

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «إذا نهى الحاكمُ العالمَ أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ».

وانطلاقاً من هذه المعاني المهمة، حرصت دولة الإمارات على ضبط الفتوى في المجتمع، عبر إنشاء المراكز الرسمية للإفتاء في الدولة، سواء مركز الإفتاء التابع للهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، أو مراكز الإفتاء الخاصة بالمؤسسات الدينية المحلية مثل دائرة الشؤون الإسلامية في دبي والشارقة، أو مراكز الإفتاء الخاصة بدوائر القضاء، مستمدة سياستها الرشيدة من قواعد الشرع ومقاصده، ومن حاجة الواقع وتحدياته، وهي إحدى جهود الدولة في ضبط الخطاب الديني في المجتمع؛ ليؤتي ثماره اليانعة ونتائجه الطيبة.

Email