ثورتا 23 يوليو و30 يونيو الدولة والإرادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستحق ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، في ذكراها الرابعة والستين، التذكر والتذكرة، ليس فحسب لأنها تعتبر من الأحداث الكبرى في تاريخ مصر الحديثة، ولكن أيضاً لأن هذه الثورة استعادت الدولة المصرية وقامت بعملية تمصيرها، أي إدارة هذه الدولة من خلال أبناء مصر، وذلك بعد قرون من ضعف الدولة وغيابها وسيطرة العناصر الأجنبية عليها.

وثورة الثالث والعشرين من يوليو، مثلها في ذلك مثل الأحداث الكبرى في التاريخ أثارت - ولا تزال - تثير- الخلاف في الرؤى والمواقف والاستقطاب الحاد حول طبيعتها وأهدافها بين مؤيديها وهم الكثرة الغالبة من الشعب، وبين معارضيها وخصومها وهم قلة في كل الأحوال.

وليس هنا المجال للاشتباك مع حجج المعارضين للثورة فهي معروفة ومكررة، ولكن يمكن ملاحظة أن أغلب حجج هؤلاء تتركز إما في غياب الليبرالية والديمقراطية أو في ابتعاد دولة يوليو وثورتها عن الدين..

وفي الحالتين تغيب عن الأولى روح العصر وطبيعة ثورة يوليو ذاتها، أما الثانية المتعلقة بالابتعاد عن الدين فهي تتجاهل طبيعة تدين المصريين وارتباط الدولة المصرية بالروح المدنية والتشريعات الحديثة.

ثورة يوليو 1952، من الظلم والإجحاف أن تقيم وفقاً لمعايير تشكلت بعد قيامها بعشرات السنين تتعلق بالحرية وحقوق الإنسان، بل ينبغي النظر لها بعين العصر والزمان والتاريخ الذي وقعت فيه، والذي تميز بالصراع بين الاشتراكية والرأسمالية والمعسكر الشرقي والمعسكر الغربي..

وحلف الأطلنطي وحلف وارسو، واختارت الثورة على الصعيد الداخلي الاشتراكية العربية تمييزاً وتميزاً عن الاشتراكية السوفييتية، واختارت على الصعيد الدولي عدم الانحياز والحياد الإيجابي، وفضلاً عن ذلك فإن الثورة انخرطت في معارك التحرر الوطني وربطت بين التحرر الوطني الداخلي والتحرر الوطني في بقية أنحاء العالم.

وبالإضافة إلي ذلك فإن الثورة في برنامجها الداخلي لم تنفصل عن برنامج الحركة الوطنية المصرية بأطيافها المختلفة، وهي الحركة التي طالبت بتطبيق الإصلاح الزراعي والتمصير والعدالة الاجتماعية وإنهاء الاحتلال والجلاء، ومثل برنامجها القاسم المشترك الأعظم بين كل القوى السياسية الوطنية آنذاك، باستثناء الإخوان المسلمين الذين حاولوا فرض وصايتهم على الثورة وأيديولوجيتهم عليها، وانتهى الأمر بالصدام والصراع، كما هو معروف.

استعادت ثورة يوليو الدولة المصرية واستعادت معها استقلال الإرادة الوطنية واستقلال القرار الوطني، كما استعادت كرامة المواطن المصري، فلأول مرة في التاريخ يخاطب زعيم هذه الثورة ومفجرها جمال عبد الناصر جماهير المصريين باعتبارهم "الأخوة المواطنون"، تمكنت ثورة يوليو من إعادة رسم الخريطة الاجتماعية والطبقية في مجتمع النصف في المائة، من الملاك وكبار الرأسماليين وعلية القوم تحول عبر التمصير والتأميم والإصلاح الزراعي الأول والثاني وامتلاك الدولة لوسائل الإنتاج الكبرى وتشكل القطاع العام، تحول هذا المجتمع إلى مجتمع المنتجين والعاملين والزراع وفتح التعليم المجاني الإلزامي الباب أمام ترقي أبناء البسطاء والكادحين وشرائح مختلفة من الطبقة الوسطى.

ذكرى ثورة 23 يوليو هي مناسبة لاستخلاص الدروس والعبر والنظر إلى المستقبل، وهذا ما يبقى في غالب الأحوال من جميع التجارب التاريخية الكبرى، فالتاريخ لا يعيد نفسه وإن فعلها فلن يكون ذلك سوى مأساة في المرة الأولى وملهاة في المرة الثانية..

فالظروف تتغير والمعطيات تتبدل والأولويات تتحول، وهذه سنة الحياة والكون، وهكذا فإن ما يبقى من ثورة يوليو تلك القيم التي حاولت ترسيخها في الواقع المصري، قيم المساواة والمواطنة واستقلال الإرادة والعدالة الاجتماعية، وهذه القيم هي رصيد أي تجربة تاريخية تترك بصماتها وتضع فارقاً بين ما قبلها وما بعدها.

ثورة يوليو حاضرة وبقوة في المشهد الراهن بقيمها التي نجحت في إرسائها وتلك التي أخفقت في تحقيقها جزئياً، وهي في هذا وذاك وفي الحالين تستعصي على النسيان والتهميش في الذاكرة والوعي الجمعي للمصريين، وكانت هذه القيم حاضرة في قلب ثورة 30 يونيو عام 2013.

فما يجمع بين ثورة 23 يوليو عام 1952 وما بين ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، هو استرداد الدولة المصرية وانتشالها من أيدي العابثين، والحول دون تغيير طابعها المدني الذي لا يخاصم الدين..

وحظر العبث بمؤسساتها، تمهيداً لإسقاطها، والمفارقة التاريخية أنه في الحالين أي ثورة يوليو والثلاثين من يونيو عام 2013 كان الإخوان الضالون والإرهابيون هما أعداء الأمس واليوم، فقد حاولوا فرض أجندتهم على ثورة يوليو فرفضت الثورة ذلك وقاومتهم، وفي الثلاثين من يونيو كانوا قد وضعوا أيديهم على الدولة واستأثروا بها وأقصوا كل الأطراف حتى من تعاهد منها معهم على غير ذلك.

 

Email