نظام عالمي في أزمة و«نساء حديديات» في الحكم!

ت + ت - الحجم الطبيعي

تأتي «تريزا ماي» لرئاسة الحكومة البريطانية في أصعب الظروف. سيكون عليها أن تقود بلادها للخروج من أصعب أزمة واجهتها منذ سنوات طويلة، وليس فقط للخروج من الاتحاد الأوروبي.

سيكون عليها أن تمثل بريطانيا المنقسمة على نفسها، لم يحدث من قبل في مفاوضات صعبة مع أوروبا التي تقودها سيدة حديدية أخرى هي المستشارة الألمانية ميركل، التي تحاول من جانبها أن تحافظ على وحدة الاتحاد الأوروبي، وأن تمنع أن يكون خروج بريطانيا منه مقدمة لخروج دول أخرى ولتفكيك الاتحاد.

في نفس الوقت تحتدم المعركة الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية. وإذا لم تحدث مفاجآت من العيار الثقيل، فسوف نكون في بداية العام الجديد مع أول سيدة تتولى رئاسة أميركا، وهي المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، لتحكم المرأة أكبر ثلاث قوى في العالم الغربي لأول مرة.

وتجرى الانتخابات الأميركية وسط مناخ أزمة عاصفة قد يكون عنوانها الظاهر مؤخرا هو العنصرية ضد السود، بعد أحداث «دالاس» التي هزت أميركا. لكن الحقيقة أن الأزمة أكبر من ذلك، وهي في جزء كبير منها تتشابه مع الأزمة في أوروبا. فالأفكار العنصرية الفجة التي طرحها المرشح الجمهوري «دونالد ترامب» بدءا من إقامة الأسوار بين أميركا والمكسيك، إلى معاداة ذوي الأصول غير البيضاء، إلى منع دخول المسلمين لأميركا، سوف نجد مثيلا لها عند اليمين الأوروبي المتعصب الذي يحقق تقدماً في العديد من دول أوروبا، وربما نجد مثيلته الأساسية في فرنسا «ماري لوبان» رئيسة لبلادها في الانتخابات القادمة لتواجه أوروبا وضعاً كارثياً.

يستغل اليمين المتعصب الأزمة الاقتصادية العالمية وما يصاحبها من ركود لكي ينشر مشاعر الكراهية ضد الأجانب. ويستغل ما تفعله عصابات الإرهاب التي تدعم الإسلام لكي ينشر العداء ضد المسلمين، متناسيا أن سياسات بلاده ودور أجهزة مخابراتها، كانت الداعم الأساسي لهذه العصابات «من الإخوان للقاعدة لداعش وغيرها»، ومتغاضياً عن «الفوضى غير الخلاقة» التي زرعها في المنطقة العربية فدمرت دولاً، وحولت أوطاناً إلى أطلال، وتركت الحروب الأهلية والطائفية تزرع الخراب في الأرض العربية، بعد أن قررت أن تجمع في وقت واحد بين دعم الإخوان والدواعش من ناحية، والتحالف مع حكم الملالي في طهران من ناحية أخرى!

لكن جوهر الأزمة يبقى أننا أمام نظام عالمي يقر زعماؤه الآن بأنه يحتاج لإصلاحات أساسية، حيث يتجاوز المأزق الذي وصل إليه. هذا المأزق الذي أنتج لأميركا مرشحاً عنصرياً ينشر الكراهية مثل «ترامب»، أعطاها-على الجانب الآخر-المرشح «ساندرز» الذي نافس هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي حتى قرب نهاية السباق، والذي أعلن انسحابه وتأييده لها بعد أن ترك بصمته على الانتخابات وعلى برنامج الحزب وعلى الحياة السياسية.

منذ سنوات كنا مع غيرنا نشير إلى أن «العولمة» بشكلها الذي تطبق به، ومع الإيجابيات التي قد تصاحبها بالنسبة للاقتصاد العالمي، إلا أنها تلحق الظلم بالدول النامية لصالح الدولة المتقدمة التي تجني ثمار «العولمة» وتترك الدول الفقيرة تعاني في سباق غير متكافئ وتظل مجرد مورد للمواد الخام للدول الغنية التي تزداد غنى وتقدماً.

الآن يظهر الجانب السلبي لنظام «العولمة» داخل أكثر الدول تقدما واستفادة من هذا النظام «أميركا وأوروبا» التي أصبحت مهددة بالانقسامات والاحتكارات العالمية وبين الغالبية من الشعور التي تعاني من أوضاع يتراجع فيه مستواها وتزداد معاناتها التي لا تقارن بالطبع بمعاناة الشعوب الفقيرة. والآن يعترف قادة هذه الدول بالحاجة إلى إصلاحات جذرية سواء في نظام «العولمة» أو في النظم الداخلية التي تحكم هذه المجتمعات اقتصادياً وإيجابياً.

في أميركا يقول الحزب الديمقراطي: إن برنامج هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الذي ساهم فيه ساندرز مساهمة كبيرة هو البرنامج الإصلاحي الأهم في تاريخ الحزب، وهو ما يعني التزام هيلاري كلينتون بإصلاحات اجتماعية واقتصادية تعيد التوازن داخل المجتمع الأميركي وتحاصر الدعوات اليمينية العنصرية، وتقترب من عدالة اجتماعية قال الرئيس أوباما إنه كان يتمنى أن يحقق فيها خطوات أكبر في عهده لولا مقاومة اليمين.

وفي أوروبا تؤكد المستشارة الألمانية ميركل ضرورة القيام بإصلاحات جذرية للحفاظ على الاتحاد الأوروبي، بينما كان أول ما أكدت عليه رئيسة الحكومة البريطانية الجديدة «تريزا ماي» هو أنها تريد قيادة المملكة المتحدة لتكون «دولة للجميع» على حد تعبيرها، مدركة أن هذا هو الطريق لمحاصرة اليمين العنصري المتطرف، ولمقاومة دعوات الانفصال التي قد تفكك الدولة.

لعلها المصادفة.

ولكن ها نحن أمام نظام عالمي تنفجر سلبياته ويعترف الجميع بأنه في حاجة لإصلاحات أساسية وسريعة يبدو أن المرأة ستقوم بالدور الأساسي فيها من خلال قيادة أكبر القوى الغربية، حيث تتواجه المرأتان الحديديتان المستشارة الألمانية ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي، بينما المؤشرات تقول إن أول سيدة ستقود أميركا في بداية العام الجديد.

لعلها المصادفة. لكن هل تستطيع السيدات الحديديات العبور بالعالم من أزمة النظام الذي يحكمه، والذي يواجه أكبر المخاطر التي لن يهزمها إلا بإصلاحات جذرية وقرارات مصيرية تغلق الأبواب على يمين متطرف ينشر الكراهية ويهدد استقرار العالم بأكمله؟

Email