مجرد اقتراح لمكافحة التسريب

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل انتشار الهاتف المحمول على النحو الذي نراه الآن، كانت هيئة الاتصالات والتليفونات الفرنسية قد عممت نظام كبائن التليفونات العامة، في أغلب المدن الفرنسية، لإتاحة الفرصة للمواطنين لإجراء الاتصالات المحلية والدولية.

وكانت هذه الكبائن تعمل بنظام قطع النقود المعدنية التي تتدرج قيمتها وفق طبيعة الاتصال ومدته، ثم تطور هذا النظام في وقت لاحق لكي يعمل بنظام "الكروت الذكية" مدفوعة الثمن مقدماً، في خلال سنوات الثمانينيات. وكانت الهيئة تقوم بعمل حملات للتفتيش على مستخدمي "الكروت الذكية" في كبائن الاتصالات، من خلال مفتشين ومراقبين تابعين لها..

وفى إحدى المدن الفرنسية لاحظ هؤلاء المفتشون أن شخصا ما يجري اتصالاً في إحدى هذه الكبائن لمدة طويلة، ولما كانت القوانين واللوائح المعمول بها تحظر على هؤلاء المفتشين اقتحام وانتهاك خصوصية القائمين بالاتصال، فقد انتظروا خارج الكابينة حتى إتمام الاتصال، وعندما خرج الشخص الذي يجري الاتصال طلبوا منه "الكارت الذكي" الذي يجري من خلاله ذلك الاتصال.

وبفحص الكارت تبين أنه ممتد الصلاحية إلى ما لا نهاية، وطلبوا من ذلك الشخص أن يدلهم على المكان والشخص الذي اشترى منه هذا الكارت، وبالفعل اكتشف المفتشون وخبراء الاتصال بالهيئة أن القائم بتصنيع هذا الكارت طالب بالثانوية الفنية.

وكانت المفاجأة أن الهيئة الفرنسية لم تعاقب هذا الطالب بل قدمت له عرضاً مغرياً للعمل بالهيئة في الإدارة المصنعة للكروت ومراقبتها أو تلك المشرفة على اعتمادها وإصدارها، والسبب في ذلك أن خبراء الهيئة اكتشفوا أن الطالب موهوب في هذا المجال وأن موهبته تستحق أن تندمج للعمل في إطار القانون والدولة، وذلك رغم ارتكابه هذه المخالفة للقانون.

وفى أحد الأفلام الأميركية عرض لشخصية موهوبة في تزوير الشيكات المصرفية والتزوير بشكل عام، وبالرغم من جهود أقسام مكافحة التزوير الحكومية، إلا أنها لم تستطع وقف التزوير، بسبب مهنية وجودة التزوير وتطابقه مع الشيكات الأصلية، واضطرت هذه الأقسام لمكافحة التزوير عند القبض على الشخص الذي يقوم بهذا التزوير للاستعانة به في مقاومة التزوير في الشيكات المصرفية بعد أن عرضت عليه عملاً مغرياً وبمرتب مجز نظرا للموهبة الاستثنائية التي يحظى بها هذا الشخص.

وفي كلتا هاتين الحالتين فإن الفكرة والدافع اللذين حكما التعامل مع الوقائع يتمثلان في مقارنة الجرم الذي ارتكبه هذان الشخصان مع الاستفادة الممكنة منهما في إطار النظام والقانون، وتغليب الاستثمار المبدئي لموهبة كليهما على الجرم الذي ارتكباه، وقابلية كل منهما للانخراط في عمل مفيد وبناء لحماية النظام والقانون ومنع الانتهاكات الواقعة.

أقول هذا بمناسبة أزمة شهادة الثانوية العامة وتسريب بعض امتحاناتها بشكل متكرر طيلة السنوات الأربع الماضية، وبالرغم من عمق وتجذر أزمة النظام التعليمي فإن تسريب الامتحانات على هذا النحو زاد الطين بلة، فحتى الامتحانات المعدة لقياس القدرة على الحفظ والتلقين باتت هي الأخرى مهددة بالتسريب، واكتشف الطلاب وأولياء الأمور هشاشة النظام التأميني لامتحانات الثانوية العامة وعدم قدرة السلطات المخولة بهذا الأمر على مكافحة التسريب رغم اشتراك العديد من الجهات في هذا الأمر.

وعلى أي حال فإن ظاهرة التسريب، تكاد تكون عالمية وليس ثمة دولة بمنأى عنها بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وتقف تسريبات "إدوارد سنودن" وتسريبات "ويكيليكس" شاهداً حياً على ذلك، وذلك بسبب صعوبات تأمين الشبكات العنكبوتية وقابلية نظام الأمن المعلوماتي للاختراق، وربما أيضا تعقد هذه الأنظمة للأمن وتعديلها وهو الأمر الذي قد يعرضها للاختراق والهشاشة.

بعد خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي وحديثه عن الإصلاح الشامل لنظام التعليم ووعده بعدم تكرار ما حدث في هذه الامتحانات، بمقدورنا أن ننتظر ترجمة خطاب الرئيس إلى سياسات تعليمية جادة تضعنا على بداية الطريق الصحيح، ومع ذلك فإن انتظار الإصلاح الشامل للتعليم، قد لا يمنع أو يحول دون التفكير في الاستفادة من خبرات أولئك القائمين على مواقع وصفحات التسريب وإدماجهم في نظام متكامل لمنع التسريب واستثمار مواهبهم في إطار القانون والنظام، هذا الاقتراح يفترض أن بعض المحتالين والنصابين لديهم طاقة إنسانية يمكن توظيفها بطريقة أفضل وأن الشر والخير يتجاوران في النفس الإنسانية.

 

Email