موسكو- تل أبيب .. تعقيد جديد في التوازنات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تشهد العلاقات الروسية الإسرائيلية تحسناً يذكر في تسعينيات القرن المنصرم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، خاصة في الفترة التي شغل فيها يفجيني بريماكوف وزارة الخارجية، ثم رئاسة الوزراء في السنوات 96 -99، فهو من المصنفين في خانة أصدقاء العرب. إلا أن الحال قد تغيرت مع مجيء الرئيس فلاديمير بوتين لسدة الحكم رئيساً للدولة، أو رئيساً لوزرائها منذ عام 2000 وحتى الآن..

ووصلت هذه العلاقة مؤخراً إلى مستوى غير مسبوق من التقارب. ويمكن إعزاء هذا التطور إلى عوامل عديدة: أولها، تراجع العلاقات الإسرائيلية الأميركية على قاعدة العزوف الأميركي عن المزيد من الانغماس في الشؤون الشرق أوسطية من جهة، وموقفها اللين من برنامج إيران النووي الذي يقلق إسرائيل من جهة أخرى.

وثانيها، تراجع الصراع العربي الإسرائيلي، وزوال ما كان يضفي من حساسية على العلاقة مع روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، المنحاز للموقف العربي.

وثالثها، السياسة البراغماتية للرئيس الروسي بوتين، الذي نجح في إعادة نفوذ بلاده إلى منطقة الشرق الأوسط، بتبني سياسة التقرب من جميع دولها. عودة روسيا هذه، تتوجت في سبتمبر المنصرم باقتحام عسكري كثيف ومباغت في الأراضي السورية بهدف مكافحة الإرهاب.

وقد سبق هذا التطور في العلاقة، رسائل ود متبادلة على لسان مسؤولين في الدولتين، فقد اتخذت إسرائيل موقفاً محايداً من الأزمة الأوكرانية، ورفضت بيع السلاح لأوكرانيا، كما رفضت التصويت في الأمم المتحدة على إدانة روسيا لقيامها بضم شبه جزيرة القرم، ما أغضب الولايات المتحدة إلى أبعد الحدود، في حين التزمت روسيا الصمت، إلى حد ما، على ما قامت به إسرائيل في عملية الجرف الصامد، في حربها الأخيرة على غزة.

إسرائيل لها ما يبرر موقفها من هذا التقارب، فمع أن علاقاتها مع الولايات المتحدة تعتبر من الثوابت غير القابلة للمساس، إلا أن سعيها للتقارب مع موسكو نابع من دوافع أمنية بالدرجة الأولى، وليس طمعاً بالحصول على السلاح الروسي، كما ذهبت إليه بعض التحليلات التي افترضت أن إسرائيل لم تعد تعتمد بصورة مطلقة على الولايات المتحدة، في ما يخص الدعم العسكري.

الحضور العسكري الروسي الكثيف في سوريا، لا يقلق إسرائيل، إذ ليس لدى روسيا نوايا عدوانية تجاهها منذ تأسيسها، فروسيا لم تزود الدول العربية سوى بأسلحة دفاعية خلال حقبة الصراع العربي الإسرائيلي المسلح. كما أن بينهما نوع من الألفة، إذ إن هناك أكثر من مليون مهاجر روسي في إسرائيل، وتعتبر اللغة الروسية، الثالثة في التداول داخلها بعد العبرية والإنجليزية.

فالعلاقات المميزة لروسيا مع أعدائها، إيران وسوريا، وتزويدهم بالسلاح، لا تقف عائقاً أمام بناء علاقة مصالح معها، طالما كانت روسيا دولة براغماتية، لها حضورها القوي عالمياً، على المستويين السياسي والدبلوماسي، ولها حضور عسكري، إلى الجوار داخل الأراضي السورية.

تل أبيب تسعى في بناء علاقاتها الجديدة مع موسكو، إلى تبديد مخاوفها من أن يؤدي الانتشار الروسي في سوريا، إلى وضع قيود على حرية الأعمال العسكرية التي اعتادت إسرائيل ممارستها في الأجواء السورية بشكل مستمر لأهداف عملياتية واستخبارية، من خلال تنسيق يومي مع روسيا.

فرغم ما تملكه إسرائيل من قدرات استخبارية في سوريا، التي أصبحت بمثابة كتاب مفتوح لها، يبقى هاجس القلق على أمنها لا يفارقها، بسبب الاستمرار في التغيير في التحالفات والولاءات في المنطقة، التي أصبحت أشبه ما تكون بالرمال المتحركة، خاصة أنها مستمرة في نهجها المتوجس والعدائي في العالم العربي. إسرائيل لاعب مهم في المنطقة..

ولكن عليها أن تتقبل حقيقة أن روسيا أصبحت اللاعب الرئيس فيها، على الرغم من أن مقاربات الرئيس الروسي لأزمات المنطقة، تنطلق بشكل أساسي من معاداة الغرب، الذي تدين إسرائيل بوجودها واستمرار هذا الوجود إليه.

سيتضاعف التنسيق والتقارب بين روسيا وإسرائيل في المستقبل، وعلى محاور عديدة، إذ من المستبعد أن تنسحب روسيا من الأراضي السورية قريباً، حتى لو تطلب ذلك التضحية بنظام الرئيس الأسد. فعلى مستوى التعاون الاقتصادي بينهما، خاصة في مجال التكنولوجيا المتطورة، التي تتضمن تقنية «النانو»، شهد حجم التبادل التجاري بين البلدين تصاعداً ملحوظاً..

فبعد أن كان مليار دولار عام 2005، وصل إلى ما يقرب من أربعة مليارات دولار عام 2014، وهو أعلى من حجم التبادل التجاري الروسي مع مصر، حصلت روسيا من خلال هذا التعاون أواخر عام 2015، على عشر طائرات إسرائيلية بدون طيار. ثمة أمر آخر في سياق التعاون الاقتصادي، وهو اشتراك شركات الغاز الروسية في العطاءات الخاصة بتطوير حقلي الغاز الإسرائيليين «لفيتان» و«تمر» في البحر الأبيض المتوسط.

لم تتمكن إسرائيل من تهدئة مخاوفها من الانتشار الروسي فحسب، بل حولته إلى صمام لأمنها، خاصة في جبهة الجولان، حيث لم يعد هناك وجود لقوات إيرانية أو لمليشيات حزب الله، فالمخاوف من الانتشار الروسي قد انتقلت إلى المعسكر الآخر، إيران والمليشيات التي تدور في فلكها.

فمنذ اقتحمت روسيا المسرح السوري، اختلفت قواعد اللعبة، وتغيرت قواعد الاشتباك فيه، فهي الآن صاحبة القرار، فلم تعد طموحات إيران ومليشيات حزب الله على حالها، لأن الدول الكبرى، مثل روسيا، لا تتقبل الشراكات وقيودها، بل تفرض الولاءات.

 

Email