حادث «سيدة الكرم» والمسؤولية الجماعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحزنني ما حدث »لسيدة الكرم« مرتين، الأولى بصفتي مواطناً مصرياً انتابني ما انتاب ملايين المصريين من مشاعر الغضب والسخط على ما آلت إليه الأمور، أما الثانية فبصفتي مواطناً أنتمي إلى مدينة أبوقرقاص..

وفي إحدى قراها القابعة على بحر يوسف، وهذه الصفة الثانية بالذات تحملني جزءاً من المسؤولية بطريقة ما، فأنا وأمثالي كثيرون، القادمون من محيط هذه المدينة يبدو أننا لم نقم بواجبنا تجاه مجتمعاتنا المحلية الصغيرة أو لم نقم بما كان يتوجب علينا القيام به تجاه البيئة المحلية التي نشأنا فيها وخرجنا منها، خرجنا منها وكأننا فرحون بنجاتنا من المصير الذي كان ينتظرنا..

ورغم أن هذا الخروج تم تحت غطاء التعليم والعلم والثقافة إلا أنه في حقيقته وعمقه - غير المرئي أو الذي لا نحاول أن نراه بل نريد أن نهرب منه - لم يكن في الواقع سوى حلقات متتالية من الاغتراب والابتعاد وربما الاستعلاء على تلك الأماكن التي تشكلت فيها طفولتنا وشبابنا..

وكأن رحلتنا في التعليم لم تكن سوى طوق نجاة لذواتنا، من الجهل والتخلف بصرف النظر عن مصير إخوة لنا في هذه البيئة، يكابدون آثار الفقر والجهل والتعصب والتطرف، عكس ذلك كان هو المطلوب أي أن يفضي بنا التعليم والثقافة إلى العودة إلى جذورنا، ومكابدة مشكلات هذه البيئة..

والعمل سوياً من خلال التنمية المجتمعية والثقافية للنهوض بها وحل مشكلاتها، وهو ما لم نفعله وقصرنا فيه، وستظل تلك المسؤولية تلاحقنا ما تبقى من عمرنا، سيظل هذا الشعور بالتقصير والذنب ملمحاً فارقاً في مسيرتي ومسيرة غيري من أبناء هذه المنطقة الذين تركوها وفارقوها ولم يتأملوا يوماً أو يفكروا في عاقبة هذا الأمر، وهذا اعتراف متأخر، ولكن أن يأتي متأخراً خير من ألا يأتي أبداً.

كنت أعمل في ديوان عام محافظة المنيا إدارة التنظيم والإدارة حتى عام 1977 وكانت هذه الإدارة مسؤولة عن تنظيم الدورات التدريبية لموظفي الإدارة المحلية، وأذكر أنه في إحدى هذه الدورات التدريبية على ما أذكر كانت في عام 1976، وانتهت بعقد امتحان للمتدربين..

وفي النتيجة النهائية، حصل متدرب مصري مسيحي على المركز الأول، ولكن مسؤولي هذه الإدارة لم يسمحوا بذلك، رغم أحقيته الواضحة، وخضت سجالاً عنيفاً معهم حول هذا الأمر، لأنه يحمل تمييزاً واضحاً وإهداراً لمبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص، وباءت محاولتي بالفشل، لم يكن وقتها ثمة فضائيات أو نت أو ما دون ذلك من وسائل التواصل الاجتماعي..

ولم يكن أمام هذا الزميل المتدرب إلا التسليم بالأمر على مضض. كان المناخ آنذاك مشحوناً بالتطرف الديني بعد أن أطلق السادات العنان لحركة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية لاستخدامهم ضد التيارات اليسارية والقومية في الجامعات والمجتمع، وكان تأثير ذلك المناخ في المنيا والمناطق النائية كبيراً مقارنة بالمناطق الحضرية الأخرى ولم تبرأ هذه المناطق منه بعد.

حادثة الكرم تجد جذورها في مناخ الهيمنة الثقافية الذي فرضته الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون، حيث نشط خطابهم في هذه الأقاليم والقرى، والذي يحفل بالتمييز بين أبناء الوطن الواحد، على أساس الدين ويبرر هذا التمييز ويسوغه من الزاوية الدينية، ويؤسس لتراتبية في المواطنة والحقوق يجيء فيها غير المسلمين في المرتبة الثانية في المواطنة..

ولم ينج من هذا التأثير السلبي لا المجتمع ولا الإدارة في غالبية مستوياتها. من المفترض أن حادث الكرم يضعنا وجهاً لوجه مع مشكلاتنا وثقافتنا بهدف تشخيص الدوافع والأسباب، التي تسهم معرفتها في تقديم الحلول ووقف إنتاج هذه الحوادث، أول هذه الأسباب في تقديري هو هيمنة الخطاب الديني للجماعات المتأسلمة وغياب مواجهتها بخطاب مدني عصري يرسخ لقيم المواطنة والمساواة في الحقوق، بصرف النظر عن الدين والمذهب والجنس..

وهو ما أكده الدستور المعدل لعام 2014، لأن الأصل في التطرف والتعصب أنه موقف ثقافي وفكري يمثل مرجعية للتصرفات والسلوكيات ويبررها، ومواجهته لا تكون إلا بتأصيل موقف ثقافي وفكري مغاير، للموقف المتطرف، وينطوي على مبادئ ومسلمات مختلفة جذرياً عنه..

وهذا الخطاب الجديد لا يقتصر على مؤسسات الدولة فقط بل يجب أن يمتد لمؤسسات المجتمعات المحلية الأهلية وغير الأهلية، وكذلك المؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة وغيرها، إن خلق واستدعاء موقف ثقافي وفكري جديد يؤسس لحقبة جديدة في تاريخ مصر يتواءم مع ما ننشده من إقامة دولة وطنية مدنية ديمقراطية، لن يتأتى إلا عبر مشاركة كل المؤسسات وتضافر جهودها مجتمعة لمواجهة الهيمنة الثقافة لخطاب الجماعات الشريرة والمتأسلمة.

 

Email