معنى الوفاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

كم تصبح الكتابة مهمة صعبة عندما تتمرد الكلمات وتتثاقل عصيّةً على التعبير عن أفكار صاحبها، لاسيما إن كانت ذات شجون في فقدان عزيز أو صديق؛ وقد انتابني هذا الشعور عندما بدأت في كتابة هذا المقال، وكان مبعثه استئذان أحد مؤسسي جائزة الصحافة العربية وأبيها الروحي في الرحيل مغادراً دنيانا إلى جوار ربه، وهو الوالد الأستاذ خلفان الرومي، فمنذ انضمامه لأسرة الجائزة رئيساً لمجلس إدارتها بتعيين مباشر من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قاد الوالد الرومي، تغمَّده الله بواسع رحمته، مسيرة الجائزة بكل حكمة واقتدار، وكان سبباً رئيساً في ترسيخ دعائمها بفكر واعٍ وبصيرة نافذة، وكان تحفيزه الدائم وتشجيعه لجميع أعضاء أسرتها قوة دفع أكسبت الجائزة مكانتها التي نفخر بها اليوم كونها أهم محفل عربي للاحتفاء بالتميُّز في عالم الصحافة العربية.

وبفضل ما قدَّمه من رؤى وأفكار، أحرزت جائزة الصحافة العربية خلال ترؤس الوالد الرومي مجلس إدارتها العديد من أوجه التطوير المهمة، سواء في ما يخصُّ فئاتها أو آليات التحكيم فيها، في حين انصبَّ جلُّ اهتمامه على إيجاد سياج متين قوامه النزاهة الكاملة والحيادية التامة والدقة في المفاضلة والاختيار، كي يصون للجائزة مكانتها وضمان ذهاب التكريم لمن يستحق دون أي اعتبارات إلا المهنية وبعيداً عن أي مُجاملات من شأنها الانحراف بها عن مسارها الصحيح، فاكتسبت بذلك ثقة آلاف المبدعين في مجال العمل الصحافي، وظلَّت محط أنظارهم يتنافسون على جوائزها كل عام، مطمئنين أن من سينالها في نهاية المطاف هو من تؤهله موهبته بحق لهذا التكريم.

لم تخضع علاقة مجلس إدارة الجائزة بخلفان الرومي، ومنذ اليوم الأول، لإطار مهني جامد، إذ تمكَّن الرجل بمداد من الحب والمودَّة ودماثة الخُلُق أن يغلّف تلك العلاقة بعطاء أبويّ لا محدود، فلم يبخل يوماً بوقت أو جهد في مساعدة من حوله، ولم يضنّ بفكر في سبيل تحقيق الجائزة أهدافها، وكان بما اجتمع له من خبرات راكمها على مدار سنوات طوال عبر رحلة حافلة واكب خلالها نشأة دولة الإمارات العربية المتحدة، وعاصر فيها مختلف مراحل نهضتها الشاملة، مركز ثقل نوعياً حفظ للجائزة اتزانها، وألهم مجلس إدارتها أفضل سبل تطويرها وتعزيز مكانتها، لتكون بحق مصدر تحفيز لمزيد من الرقي المهني في عالم الصحافة العربية.

وبتواضعٍ جمّ ورِفعة خُلُقٍ آسرة، قاد الرومي، رحمه الله، مسيرة الجائزة، فعلى الرغم من كل ما شغله من مواقع رسمية رفيعة وما حمله من حقائب وزارية عدة، كان تعامله مع الجميع تعامل الأخ العطوف والأب الناصح، ولم يسمح لعارضٍ يوماً أن يحول بينه وبين مسؤولياته، بل كان حريصاً دائماً، وحتى خلال معاناته من آلام المرض، على حضور اجتماعات مجلس إدارة الجائزة، وكان يتصل معتذراً عندما يشتد به ألمه ويجبره على مغادرة البلاد في رحلة للعلاج.

سيبقى الرومي قامةً سامقةً ننظر لذكراها العطرة بكل الإعزاز والتقدير، ورمزاً مهماً من رموز الوطن الذي شارك في إرساء دعائمه إلى جوار الآباء المؤسسين، واضعين إنجازاته دائماً أمام أعيننا تذكرةً كيف يصبح حب الوطن والتفاني في خدمته وازعاً شخصياً قبل أن يكون التزاماً وواجباً، وكيف يمكن للإنسان أن يجذل العطاء لوطنه سعياً لإعلاء شأنه ورفع رايته في كل المحافل دون سعي وراء مجد ذاتي أو مكسب شخصي.

مهما عدّدنا مناقب الرجل، فلن نوفّيه حقه، فقد كان، رحمه الله، نموذجاً نادراً تجسدت فيه قِيَم النُبل والإخلاص والوفاء، وكان قدوة في حب الوطن، الذي عشق ترابه فأجذل له العطاء. ذهب عنا الوالد خلفان الرومي، وغاب بجسده إلا أن ذكراه الطيبة ستظل دائماً خالدةً في قلوبنا، مضيئةً في سجل إنجازات دولتنا، بما قدمه من عطاء سيبقى ماثلاً أمام ناظرينا يدفعنا للاجتهاد في طلب مزيد من التميِّز والسعي وراء النجاح، ويرسّخ في ضمائرنا معنى كلمة »الوفاء«.

Email