إسرائيل والمقاومة .. حدود القوة والضعف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يخلق الخلل في توازن القوى المتغير بين إسرائيل والعالم العربي نوعاً من علاقات القوة والضعف، علاقة الأقوياء بالضعفاء، وهي علاقة مركبة تفضي في الكثير من الأحيان بالطرف الثاني أي العرب إلى الانبهار بعناصر القوة التي تحظى بها إسرائيل.

وهذا الانبهار بالقوة يخلق نوعاً من الردع الذاتي أي أن يقوم العرب بخلق صورة لأنفسهم وعن أنفسهم تتناسب مع مضمون هذه العلاقات كما ينظرون إليها، أي صورة تمتزج فيها عناصر اليأس والقبول بالأمر الواقع ومجاراة القوي وتجنب استفزازه خوفاً من ردة فعله.

بيد أن هذا الانبهار ليس مساراً حتمياً لعلاقات الأقوياء بالضعفاء فمن الممكن أن تقود هذه العلاقات إلى تخليق الرغبة في محاكاة الأقوياء وتملك عناصر القوة التي تمكنوا من الحصول عليها والوصول إلى درجة من توازن القوى.

كما أنه من الممكن أن تفضي علاقة القوة والضعف بالطرف الأضعف إلى البحث عن نقاط الضعف في الخصم وفقاً لقاعدة أنه ليست هناك بالضرورة قوة مطلقة أو ضعفاً مطلقاً فالأقوياء أيضاً لهم نقاط ضعفهم كما أن للضعفاء أيضاً نقاط قوتهم.

غير أن العرب اختاروا طول هذه العقود الانبهار بقوة العدو واكتفوا بالردع الذاتي لأنفسهم ومجاراته، وعجزنا عن رؤية نقاط الضعف الواضحة للعيان في إسرائيل والتي تتناسب طردياً مع نمو عناصر القوة وبلوغها في إسرائيل مستوى من التفوق العسكري التكنولوجي لا يقارن بمستواها في العالم العربي.

فإسرائيل حتى الآن دولة بلا حدود كبقية الدول ولم تستطع أن تعين حدودها بشكل قاطع، وقد يكون مصدر ذلك إضمار التوسع وضم الأراضي العربية المحتلة، بيد أنه يمكن القول أيضاً إنها تعجز عن السيطرة على الأسطورة التي أطلقتها .

بحيث أصبحت هذه الأسطورة هي التي توجه سياساتها ورغم علمها بمطالب الآخرين المشروعة في تحرير أراضيهم وإقامة دولتهم ومقاومتهم لمشروع التوسع فإنها ليست قادرة على لجم هذه الأسطورة المؤسسة والتي تدفع ثمن الانسياق وراءها يوماً بعد يوم.

أما نقطة الضعف الثانية لدى إسرائيل فإنها رغم حديثها عن الأمن أي أمن الإسرائيليين وأمانهم فإن هذا الأمن مفتقد حتى الآن والحال أنها أصبحت دولة من 1948 وحتى الآن تبحث عن الأمن الذي لن تجده طالما بقيت الأمور على حالها فالأمن المطلق وهم والأمن على حساب فقدان الآخرين للأمن وهمٌ أيضاً.

من ناحية أخرى فإن إسرائيل تزعم أنها دولة اليهود يستطيع اليهود فيها التمتع بحياة يهودية كاملة، ورغم قانون العودة فإنها لازالت حتى الآن الجالية اليهودية الثانية بعد نيويورك حيث بقي معظم اليهود حيث هم مواطنون في دول أخرى ينعمون بالأمن والمواطنة في البلاد التي اختاروا العيش فيها.

تعلم إسرائيل أن ثمة مطالب إقليمية ودولية للسلام، وكل ما تستطيع أن تفعله حتى الآن هو الالتفاف حول هذه المطالب وتفريغها من مضمونها بحيث يأتي السلام وفق مصالحها ومطامعها ولا يحقق للآخرين أي شيء لا الأمن ولا السيادة ولا تقرير المصير، ذلك أن السلام بالنسبة لإسرائيل ليس خياراً استراتيجياً كما هو الحال بالنسبة للعرب.

بل هو غطاء وتمويه للخيار الحقيقي لإسرائيل الذي يتمثل في القوة المطلقة والتفوق المطلق والهيمنة المطلقة على المنطقة خاصة مع توحد الأجندة الإسرائيلية الأميركية بعد 11 سبتمبر وبعد ثورات الربيع العربي وتآكل فاعلية الدول الوطنية وتفعيل آليات التقسيم والتفكيك.

والحال أن خيار العرب الاستراتيجي ليس كافياً لتحقيق السلام كما أن القوة المطلقة الإسرائيلية تخلق مقاومات شتى تعوق فرض مشروعها في المنطقة وعلى شعوبها، ذلك أن الاستناد إلى أن السلام هو الخيار الذي ما بعده خيار فهمته إسرائيل على أنه الضعف الذي ما بعده ضعف.

والحال أن الضعف المعلن من الجانب العربي الرسمي يغري إسرائيل باعتماد القوة لفرض الحلول والمعالجات وصياغة أو بالأحرى إعادة صياغة المطالب العربية والفلسطينية وتكييفها وفق المصالح الإسرائيلية، كما أن تبني خيار القوة من جانب إسرائيل يدفع نحو التمسك بهذه المطالب والدفاع عنها عبر المقاومة المشروعة للاحتلال والهيمنة.

في هذا السياق تخلق المقاومة الباسلة الفلسطينية للعدوان الإسرائيلي تحديات هائلة الآن وفي المستقبل «فالجيش الذي لا يقهر» يتخبط ويرتبك ويفقد العديد من الإسرائيليين حياتهم نتيجة لاستمرار انتفاضة «السكاكين».

من المؤكد أن فقدان الثقة واكتشاف حدود القوة والسلاح لا يعني بالضرورة توليد الاقتناع لدى النخبة الإسرائيلية بعدم جدوى القوة في اللحظة والتو بل يعني تراكم انعدام الثقة في مراحل مختلفة قد تفضي إلى تجنب هذا الاختيار، ولكنه في اللحظة الراهنة قد يفضي إلى مزيد من استخدام القوة والبحث مجدداً في نقاط الضعف التي تم اكتشافها ولن تعدم إسرائيل السبل والوسائل لدعم فاعلية آلتها العسكرية.

بيد أنه على الجانب الآخر فإن هذه المقاومة للعدوان سوف تراكم خبرتها وتنتقل بها نقلة نوعية في المستقبل وسوف تستخلص الدروس من أجل مزيد من الفاعلية، كما أن الباب مفتوح لتعميم هذه الخبرات على الصعيد العربي وتطويرها في أي مواجهة مقبلة.

على صعيد آخر فإن تحدي المقاومة يثير لدى المواطن الإسرائيلي العديد من الأسئلة على شاكلة إلى متى؟ وما الهدف؟ من جراء هذه الحروب وأين الأمن؟ وكيف يتحقق؟ بعد فشل القوة في تحقيقه على مدار هذه العقود.

هذه الأسئلة وغيرها سوف تجد منفذاً للخروج إلى حيز النور والفضاء العام في إسرائيل وسوف تطرح نفسها على الساسة وصناع القرار.

Email