عن هندسة العقل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يواجه العقل والروح الإبداعية واحدة من أخطر الهجمات ضراوة من بعض المحافظين والمتزمتين، في سعي هؤلاء للسيطرة على العمليات والآليات الذهنية والأخيلة الإبداعية للمفكرين والمثقفين والفنانين أياً كانت مجالات إنتاجهم الإبداعي.

والأخطر هو محاولة تنميط العقل والخيال وتحويلهما إلى آلة ذهنية بليدة تنتج الشعارات الشعبوية والأمثولات الأخلاقية، والمقولات التأويلية، والمرويات الشعبية التي يذخر بها التراث الفلكلوري والمخيلة الجماعية.

إنها محاولة لهندسة العقل والخيال لوأد النزعة النقدية والعقلانية، وترويض الخيال ليغدو مستأنساً على هوى وذائقة تقليدية يدور في دوائر مغلقة لا تنتج سوى الفراغ وتخييلات فقيرة ورؤى مترعة بالتفاهة واللغة الخشبية التي لا تَبينَ، حيث يسكن في حناياها خواء الروح وفقر الفكر.

منذ عديد العقود وبعضهم يعتقد أن الأدب هو إنشاء على نمط بعض الخطابات الوعظية والأخلاقية الرامية إلى الهيمنة على العقل والوعي الجمعي، ووفق هذا التصور والإدراك الفردي أو الجماعي أعطوا لأنفسهم الحق في مطاردة الكتب والمقالات والقصائد والقصص والروايات والمسرحيات والصور.

أخطر ما في هذه الظاهرة الممتدة عربياً يتمثل في العقل الاحتسابي ذي المنزع المولع بالتفتيش في الإنتاج الفكري والإبداعي بحثاً عن كلمة أو فقرة أو صفحات لا تتوافق مع معاييره وزائقته، ويحرض العامة وسلطات الدولة على تحريك الدعاوى القضائية حيث الكاميرات والتحقيقات تلاحق بعضهم للإدلاء بالأحاديث... إلخ، وذلك على نحو ما كان يتم طيلة أكثر من أربعين عاماً مضت، من المطاردات للأفكار والأخيلة والصور.

إن العقل الاحتسابي النمطي يتسم بالتجزيئية، وعدم رؤية الظواهر والمشكلات والأعمال الفكرية والإبداعية في تكاملها الداخلي، وبنياتها ومواطن القوة والجمال والخيال والإبداع فيها، وإنما يتعامل معها وكأنها خطابات أخلاقية، من خلال المعايير المستمدة من الأعراف والقيم المتخيلة، حيث يتم التعامل مع الواقع الموضوعي ومحمولاته الأخلاقية والقيمية، على أنه هو الواقع في الموروث.

يتسم العقل الاحتسابي في نظرته للواقع في التاريخ والواقع الحي المعاصر بكل تفاعلاته وتناقضاته وازدواجياته وفضائله وشروره ومكامن الخير في قيمه وبعض ممارساته، والعقل الاحتسابي يعتمد على التعميمات واللغة الإنشائية الفقيرة التي تتحدث عن الأخلاقيات والحياء العام والآداب والأخلاق العامة، على نحو لا تاريخي يحدده المحتسب واختياراته ومعاييره..

وليست تعبيراً عن الواقع الموضوعي وحركة البشر وتفاعلاتهم وخطابات البذاءة والمسبات والقبح، والتناقضات داخل التركيبة النفسية للإنسان العربي.

يحفل الواقع اليومي بفضاءات من البذاءة وخدش الحياء واللغة والأحاديث السوقية التي أصبحت من فرط شيوعها وتكرارها فقدت محتواها ودلالتها.

إن العقل الاحتسابي العام يحاول أن يفرض هيمنته على المجال العام ويتخذ من مجموعة من الشعارات والمعايير أدوات للتحريض ضد العقل الناقد الحر، والخيال الإبداعي الخلاق، من خلال اللجوء إلى آلية الشكوى للنيابة العامة التي تحرك دعوى الحسبة للمحاكم.

إن العمل الأدبي والفني والفكري تحكمه مفاهيم ونظريات نقدية وجمالية ومناهج في التقييم النقدي باتت تشكل ذروة التطور في ثورة الألسنيات اللغة والتحليل الفني.

من هنا من الممكن لأي جهة أن تستعين ببعض أهل الخبرة من نقاد الأدب الكبار لاستطلاع رأيهم في العمل الإبداعي المشكو في حقه، لأن الواقع في التخييلات الأدبية الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية هو واقع متخيل، وليس هو الواقع في ذاته، حتى ولو كانت بعض شخوصه وأمكنته ورموزه مستمدة من الواقع الحي، وثمة ما يطلق عليه اصطلاحياً جماليات القبح، والبذاءة التي تكشف الواقع ومناطق التحلل داخله، وفي اختلالاته وتناقضاته الأخلاقية.

ما بالنا إذا كان الواقع الفعلي والافتراضي يُمور بفيضانات وسيول وأمطار تهطل بالصور والأفلام الساقطة، وأكثر المجتمعات استهلاكاً لها تقع في الشرق، بل ان الواقع في العالم يكشف عن سلوكيات وأقوال محمولة على الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، والكذب والخداع.

إن العمل الأدبي لا يتجزأ ولا يختزل في فقرة أو صفحة أو صفحات، وإنما يؤخذ العمل بأكمله في بنيته السردية، ولغته ومجازاته وشخوصه، لأن البذاءة في السرد هي حيلة سردية، للكشف والإنارة، في بعض الأحيان، والأخطر أنها تحمل في تخييلاتها تعبيرات عن أزمات الإنسان المعاصر في سياقات محددة.

وان التراث الأدبي العربي يحمل نصوصاً صريحة في السرد، لدى الأصفهاني والنفزوي والسيوطي وأحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا، وسواهم ممن أثروا التراث العربي الأدبي والفقهي.

إن وقائع حبس بعض الكتاب في قضايا فكرية خطر كبير على حرية العقل والفكر والإبداع، وكان يمكن الرد عليهم نقدياً بتحليل أعمالهم وكتاباتهم وأقوالهم والكشف عن مواطن الخلل فيها ودحضها، أو التقييم النقدي للعمل الروائي من خلال أدواته.

 

Email