قراءة في مقال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

ت + ت - الحجم الطبيعي

مقال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم كان في صميم الشأن الذي يتداوله الناس منذ إعلان التشكيل الوزاري الجديد، والمقال زاخر بالمضامين والرسائل المهمة للداخل والخارج يناقش بعقلانية ويرد على التساؤلات بمنطقية ويصل إلى النتائج بدلائل ومسوغات مقنعة والذي دعا الشيخ محمد لكتابة هذا المقال هو كثرة الأسئلة والتعليقات والمكالمات وملخصات الأخبار، أي أن المقال لم يأتِ من فراغ أو ترف فكري وإنما ولد من زخم هذه التساؤلات، خاصة فيما يتعلق بتعيين وزراء للسعادة والشباب والتسامح والمستقبل وغيرها من موضوعات.

صنّف الشيخ محمد المتسائلين والخائضين في هذا الحديث إلى ثلاثة أقسام: معجب ومستغرب وآخرون من الخارج، قارنوا التغييرات ببناء أطول برج وأكبر جزيرة وكأن التغيير كما يقول سموه جزء من حملة الدعاية لدولة الإمارات، لهذا فهو يوجه خطابه للقسمين الأخيرين، لأن المعجب لا داعي لإقناعه لأنه معجب، ويتسم المقال بالتواضع من ناحية أن كاتبه كرر فيه أننا نتعلم وتعلمنا من أحداث المنطقة ومن دروس التاريخ، أي أنه جعل نفسه في مقام الذي يتعلم ويستفيد من الدروس حوله وليس في موقع الأستاذ الذي يعلم ويوجه غيره ، وفي هذا منتهى التواضع، بينما هو في حقيقة أمره قائد صاحب رؤية وإنجازات كثيرة، وأهم ما تعلمه الشيخ محمد هو أن الشباب ركن أساسي في بناء التنمية في دولة الإمارات العربية المتحدة، لكونهم يشكلون النسب الأغلب من سكانها، والتي يعدها سموه لذلك دولة شابة، ولهذا أوجد لهم الفرصة كاملة لإثبات قدراتهم، ولأن من لم يستجب لتطلعاتهم كما يقول فكأنه يسبح ضد التيار، فهو بهذا لا يتيح لهم الفرص فقط لإثبات قدراتهم ورسم سياساتهم وإنما يسعى للاستثمار فيهم، ولذلك عيّن لهم وزيرة منهم وأنشأ مجلساً خاصاً بهم يناقش شؤونهم ويستوعب تطلعاتهم ورغباتهم ليضعها في إطارها العلمي والتنظيمي.

يعتبر الشيخ محمد أن الشباب أقدر على سرعة التعلم بسبب ما توفر لهم من أسباب المعرفة وتطور التقنية فيما لم يكن ذلك متاحاً له أيام شبابه، والحقيقة عندي أن الشباب يدينون للشيخ محمد بهذا التمكين والثقة فيهم وإتاحة الفرصة لهم لممارسة رؤاهم وتحقيق أحلامهم، وأهم ما ركز عليه الشيخ محمد في مقاله هو التسامح وأفسح لهم مجالاً من الحديث، حيث إن ذلك مما تعلمه من أحداث المنطقة في السنوات الماضية، إذ لم يدع تلك الدروس تمر دون أن يستفيد منها وإنما اختزنتها ذاكرته ووعاها عقله، حيث جعل من المحنة منحة أفاد منها إفادة كبيرة في ترتيب أدواته بشكل يتناسب وظروف المرحلة الجديدة التي تفرض معطياتها على واقع الأمة شعوباً وقيادات.

وقد سعى صاحب السمو من خلال ذلك إلى تعلم التسامح وتعليمه وممارسته بل إنه يرى بأن التسامح مما يجب إرضاعه للأطفال منذ نعومة أظفارهم، لذلك فإن التسامح بتلك النظرة الإيجابية التي يوليها الشيخ محمد لمنظومته الفكرية والعملية يمثل أمراً مهماً في حياته وحياة القيادة عامة، فهو يعالج منظومته من عدة جوانب، فكرياً وقيمياً وتعليمياً وسلوكياً ليكون قيمة عالية في المجتمع عامة ولدى جميع أفراده، وهذا ما يكشف عن أهمية التسامح في نظره.

حيث يصوغ له قوانين وسياسات ومنظومة من البرامج والمبادرات لغرض تحقيقه وازدهاره في مجتمع الإمارات حتى لا يبقى مجرد شعارات مرفوعة لا حقيقة لها ولكون مردود عدم التسامح عند سموه يساوي الهلاك والدمار، حيث إن التعصب حصد مئات الألوف من القتلى وملايين من النازحين والمشردين، وذلك في نظره راجع إلى الكراهية والجهل بحقيقة القيم البشرية، فمن هذا المنطق فإن سموه لن يسمح أبداً في دولة الإمارات بالكراهية والتمييز بين أي شخص وآخر، لذلك فقد عيَّن لهذا المنحى وزيراً للتسامح لما لذلك من الاهمية في هذه المرحلة من مراحل تطور المجتمع، وهنا يسوق صاحب السمو مبررات أن يكون في دولة الإمارات وزير لهذا الشأن المهم، فالتسامح في نظر صاحب السمو الشيخ محمد لم يكن جديداً على تاريخ الأمة ومنجزاتها ويضرب مثالاً حيَّاً من مفردات هذا التاريخ العطر حين كانت الأمة في أزهى عصورها.

حيث قادت العالم وأنارت الدنيا وضربت الأمثلة في التآلف وقبول الآخرين حتى إنه عندما خرج المسلمون كما يقول من الأندلس خرج معهم اليهود وعاشوا في ظلهم واندمجوا معهم دون تمييز ولا تعصب، ويريد سموه أن يبين للقراء أن مظاهر عدم التسامح لا يمكن أن تظهر في رحاب الأمة إلا وقت التأخر والجهل، أما وقت الازدهار والعلم فتضرب الأمة أمثلة رائعة في معاني التسامح والرحمة لهذا فهو كما يقول بأن التسامح ليس مجرد كلمة يتغنى بها وإنما هي جزء من تاريخه وانتمائه وهي هدف يضع له موازين ومؤشرات وبرامج تقيس مدى تحققه في المجتمع ورغبة منه في معالجة الموضوع معالجة علمية وتنظيمية تكفل تحقيقه واستمراريته بشكل مناسب، والتسامح عند سموه سلوك وممارسة وقيم من أجل غاية مهمة عنده وهي صون مستقبل المجتمع والمحافظة على مكتسباته.

يقول سموه (نحن دولة نتعلم كل يوم ومع كل درس نتعلمه لا بد أن نأخذ قرارات لنطور بها مستقبلنا)، هذه الكلمة في غاية الأهمية والتواضع معاً، تكشف ما عليه سموه من نفس منفتحة للتعامل مع واقع الأحداث وما يعطيه ذلك من دلائل على تواضعه واستفادته من الدروس من حوله بشكل إيجابي، ويطمئن سموه الناس عامة على أن حكومة دولة الإمارات بذلت جهداً كبيراً في استشراف المستقبل والتخطيط لاقتصادات ما بعد النفط، ووضعت لتحقيق ذلك سياسات وطنية علمية وتقنية تجاوزت قيمتها 300 مليار درهم، وهذا ليس مجرد قول منه وشعارات مرفوعة وإنما هو يضع لتحقيق ذلك منظومة تشريعية وإدارية واقتصادية بشكل كامل وإيجاد بنية تحتية قوية ومتطورة لهذا البناء الجديد، بمعنى أن سموه لا يترك شيئاً للصدف والمفاجآت وإنما هو يواصل الليل بالنهار وفي شتى الاتجاهات لتأمين اقتصاد قوي وبنية جديدة لا تعتمد على النفط وحده كل ذلك من أجل الاستعداد للمستقبل ولما بعد النفط، فالشيخ محمد يركز على المستقبل الذي يعلم بأنه ليس سهلاً وإنما هو يحمل في طيه تغييرات عظيمة وشاملة في كل شيء في الصحة والعلم وإدارة المدن والخدمات وفي القضاء، ويبين من ذلك شيء كبير من التحدي الذي يتسم به الشيخ محمد خاصة في هذا المجال الكبير والصعب، حيث يذكر بأنه استنفر رهانه في مواجهة هذه التغييرات القادمة وأنه مستعد لها غاية الاستعداد، كما أنه صاحب تجربة تنموية شاملة ومتقدمة تخدمه في هذا المجال المهم.

الشيخ محمد رجل غير أناني ولا متقوقع على إنجازاته، لذلك فهو يفتح مجال تجربته للجميع للاستفادة منها، ولا شك أنها تجربة ناجحة تغني الغير عن سلوك طريق التجريب والمغامرة لأنه بشهادة الجميع نجح في تجاربه وحقق إنجازات مبهرة على أرضه، ورغم ذلك النجاح والتميز فإن سموه لم يصب بأي غرور من أي نوع من الأنواع، لذا فهو كما يقول لا يكتب هذا المقال إعجاباً بما حققه وإنما هو يبعث من خلاله برسائل للحكومات بأن تراجع دورها الذي يجب أن يتمثل في تمكين الناس وليس التمكن منهم من أجل تحقيق السعادة لهم.

يذكر سموه بأن مطلب السعادة كان قديماً في البشرية، حيث عرّف أرسطو وبعده ابن خلدون السعادة من منظوريهما كما جاء الدستور الأميركي لينص على ذلك، وكذلك جاءت مطالبات الأمم المتحدة بتحقيقها، فالسعادة في نظر الشيخ محمد مطلب بشرية أساسي والسعداء عنده أكثر نتاجاً وأطول أعماراً وأكثر فاعلية في تحقيق التنمية المنشودة، وهي بالنسبة له مطلب يمكن تحقيقه ومتابعته وتقييمه، لأن للسعادة عنده معايير ومؤشرات وبرامج وقيماً يمكن عن طريقها قياس تحققها في المجتمع، وذلك ما دعاه لتعيين وزيرة تقوم بهذا الدور، وهو كما يذكر بأنه يعني حرفياً وتطبيقاً ما يقوله بخصوص تحقيق مقتضيات السعادة لشعب الإمارات وليس بذلك مجرد كلام، وإنما هو يسعى بكل إمكانياته وطاقاته لتحقيق مقتضيات معنى السعادة في دولة الإمارات.

والتغيير الذي قام به الشيخ محمد في الحكومة يقصد من ورائه أن تنتج هذه الحكومة تنمية عملية تعتمد على منظومة من القيم يقودها الشباب وتستشرف المستقبل وتسعى لتحقيق السعادة، فهذه هي معادلة التغيير الحكومي في نظر سموه، ومن هنا يبرز المعنى الكامل لعمل الحكومة وأدوارها في التنمية المطلوبة في ظل أوضاعها الجديدة.

يبين المقال ثقة الشيخ محمد في المستقبل وثقته في الإجراءات التي اتخذها لمعالجة البنية الاقتصادية وثقته في النتائج التي ينظر إليها من خلال ما يقوم به من عمل دؤوب من أجل تحقيق هذه الغاية التي يسعى إليها بكل طاقاته وقدراته وإمكانياته الذاتية والمعرفية والمادية، ويلخص المقال دور الحكومة الجديدة في الاستعداد للمستقبل الذي يعمل له سموه وطاقمه، ومعنى ذلك أنه لن يفاجأ بمستقبل جديد لم يعد له عدته وإنما هو على عكس ذلك يعمل ويخطط ويدرس مما من شأنه أن يوجد لشعبه مستقبلاً باهراً لا يعتمد على نمط الاقتصاد في مرحلته السابقة والذي تغيرت معاييره واستبدلت أدواته، وما يعنيه ذلك أن دولة الإمارات العربية المتحدة في أيدٍ أمينة مدركة لمتغيرات الأحوال وما يتطلع التعامل مع المستقبل من فكر وأدوات جديدة، ونسأل الله تعالى التوفيق لقيادة الإمارات وشعبها وحكومتها فيما هي مقبلة عليه، لأجل استكمال منجزاتها التنموية على ضوء ما يحمله المستقبل من تحديات ورؤى ومعطيات جديدة.

Email