السيسي والدولة المدنية الديمقراطية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول- دون أدني مبالغة- إن خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، بمناسبة بدء الدورة البرلمانية الجديدة ومرور مئة وخمسين عاماً على إنشاء أول مجلس نيابي مصري..

ورغم طابعه البروتوكولي والإجرائي من أهم خطاباته على الإطلاق، من حيث الأسلوب والدقة والإيجاز أو من حيث المضمون والرسائل العديدة، التي وجهها للداخل والخارج على حد سواء، ذلك أن الخطاب يعلن ميلاد مصر الجديدة، مصر ما بعد الثورة، ويعلن عودتها إلى المسرح الإقليمي والدولي.

بل يمكن اعتبار هذا الخطاب بمثابة »خطاب تأسيسي« وخطاب مؤسس، للمرحلة الجديدة في حياة مصر والمصريين بعد الثورة، أي أنه يعين الخطوط والضوابط والقيم والأهداف، التي ينبغي للدولة المصرية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية أن تسترشد بها في المستقبل، التي سبق أن استرشدت بها بعد الموجة الثانية للثورة في 30 يونيو عام 2013..

كما أن هذا الخطاب تأسيسي ومؤسس من زاوية أخرى مهمة للغاية، لأنه باختصار يحمل ملامح رؤية جينية قد تكتمل ملامحها ومعالمها في المستقبل القريب على ضوء التقدم المنشود والإنجاز الملموس في تحقيق الأهداف والقيم.

قراءة خطاب الرئيس في الدورة البرلمانية الجديدة تكشف عن أهم المفردات التي تشغل مكاناً محورياً في تفكيره السياسي،

تركزت هذه المفردات في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة والحرية والمشروع الوطني، وتكررت في ثنايا الخطاب مرات عديدة، فالأولى أي الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ورد التأكيد عليها ثلاث مرات الأولى منها »إننا ماضون قدماً في مشروع وطني لبناء الدولة الحديثة« أما المرة الثانية »هدفنا الأسمى إعادة بناء الدولة المصرية دولة مدنية ديمقراطية«، أما المرة الثالثة فهي أننا »سنمضي قدماً في مسيرتنا نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة«.

أما عبارات الديمقراطية والحرية فقد تكررت خمس مرات الأولى »لقد استطاع شعبنا العظيم أن ينتصر للحرية والديمقراطية«، والثانية »لقد استطاعت الدولة المصرية بناء مؤسساتها الدستورية في إطار تتوازن فيه السلطات تحت مظلة الديمقراطية« والمرة الثالثة في مطالبته للبرلمان »أن يكون برلماناً حراً وممثلاً حقيقياً لرغبات الشعب..

وعليه أن يمارس هذه المهام في سياق الممارسة الديمقراطية السليمة دون استعراض«، والمرة الرابعة في سياق حديثه عن البرلمان »ولعل مجلسكم هذا خير دليل على إنجاز الأمة المصرية على طريق الديمقراطية« أما المرة الخامسة والأخيرة »فيعلن شعبنا للعالم كله أنه أرسى قواعد نظامه الديمقراطي«.

أما تعبير المشروع الوطني فقد حظي بعناية خاصة في خطاب الرئيس فقد حرص على ذكره خمس مرات، وربط بينه وبين بناء الدولة الحديثة، وأكد انطلاق هذا المشروع الوطني وفق رؤية علمية وخطى طموحة، يراعي التنسيق والتكامل بين مؤسسات الدولة..

وفي حديث الرئيس عن الإنجازات اعتبر أنها جزء من المشروع الوطني، واعتبرها خطوات واسعة يفخر بها الشعب على طريق إنجاز مشروعه الوطني كذلك ربط الرئيس بين المشروع الوطني وبين التنمية والاستقرار وبين الدفاع عن الدولة المصرية وإنجاز المشروع الوطني.

وبناء علي ذلك فإن المشروع الوطني في خطاب الرئيس يشمل بناء الدولة المدنية الديمقراطية وتنفيذ المشروعات الوطنية الاقتصادية الكبرى والحفاظ على الدولة ومؤسساتها وتحقيق التنمية والاستقرار.

أهم ما انطوى عليه خطاب الرئيس هو تأكيد الطابع المدني والديمقراطي الحديث للدولة، فهذا التأكيد هو بمثابة تأكيد لاستعادة هوية الدولة المصرية وطابعها المدني..

وإضافة البعد الديمقراطي الحديث عليها وبذلك يضع خطاب الرئيس نهاية جادة وحاسمة للمراوحة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، تلك المراوحة التي ارتبطت بعصر النهضة والحداثة والاقتباس من الغرب، ذلك أن النهضة في مختلف مراحلها وأغلب لحظاتها وروادها لم تستطع أن تستبعد مشروع الدولة الدينية من مخيلة قطاعات كبيرة من المصريين..

حيث زاوجت بين الحداثة والبني المعرفية والفكرية والثقافية، التي تتطلبها وتضمها. وبين البني المعرفية والثقافية التقليدية تعايشت الحداثة مع البني التقليدية وتوقفنا في منتصف الطريق بين كليهما وقد أفضى هذا التعايش إلى تهُميش التفكير العقلاني وحال دون امتداده لجوانب مختلفة من التراث وكان الأهم الأول تطويع التراث لقبول الحداثة وليس نقده وتبيان حاجته للتجديد وإحياء الجوانب العقلانية فيه.

لقد أفضي هذا الازدواج بين الحداثة والتراث وتجاور البنى المعرفية والثقافية لكليهما إلى الإبقاء على المراوحة بين الدولة المدنية والدولة الدينية وظلت الثانية بديلاً للأولى وظل الصراع الفكري والثقافي والسياسي قائماً بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية طوال ما يفوق القرن حتى وصول الإخوان إلى الحكم وثورة المصريين عليهم وإسقاط نظامهم.

يشتبك خطاب الرئيس »السيسي« حول الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة مع خطاب الإخوان والجماعات المتأسلمة دون أن يسميهم، فخطاب الرئيس حول هذه النقطة يرد على الخطاب الديني الإخواني ويعري أهدافه، التي لا تتجاوز محاولة اختطاف وطن لحساب أهدافهم المنحرفة ومصالحهم الضيقة، وهكذا فالدولة الدينية في خطاب السيسي هي »انحراف« عن الأهداف التي ارتضاها المصريون من خلال مسيرة دولتهم وطابعها المدني.

ولا شك في أن التأكيد على طبيعة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة هو بمثابة فتح الباب مجدداً لاستئناف النهضة على ضوء قواعد ومقاربات منهجية جديدة تفتح الطريق للعقل والعقلانية وقيم التقدم والعلم وتحفظ للدين مكانته وقيمه المقدسة، بعيداً عن السياسة وأعرافها.

 

Email