يوم استقبل الروس الأسد منفياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

ظهر كتاب لفاروق الشرع نائب الرئيس السوري، المختفي منذ عام 2012، والذي لا يعرف مكانه بعد، إن كان مدفوناً ستة أقدام تحت الأرض أو محبوساً في بيته في دمشق. وسأعود لاحقاً للحديث عن الكتاب الذي يؤرخ فيه الشرع لحقبة حافظ الأسد، إنما الذي استوقفني، وله علاقة بأحداث اليوم، حديثه عن دور القيادة في موسكو في حسم الحكم في دمشق!

الشرع يسرد حكاية كيف وافقوا على استقبال، رفعت الأسد، المنازع على الحكم. ما يعني اليوم أنه لن يكون غريباً على موسكو، ومن أجل احتواء الأزمة السورية، أن تمنح بشار الأسد ممراً أو منفى دائماً.

القصة كما يرويها الشرع، أنه سبق للروس أن تدخلوا في شأن الخلاف بين الرئيس الراحل حافظ الأسد وشقيقه رفعت، عندما وقع نزاع على الحكم في عام 1984، بعد أن دخل حافظ في غيبوبة إثر أزمة صحية طارئة. رفعت، قائد سرايا الدفاع، حاول خلال الفراغ الرئاسي أن يمارس دوره القيادي، وانشقت دمشق بسبب نزاع بين العلويين على الحكم، حتى استيقظ حافظ من غيبوبته وسط عاصمة على وشك الاقتتال. السوفييت بعثوا مندوباً عنهم، حيدر علييف، نائب رئيس الوزراء، الذي طلب لقاء رفعت لمعرفة ما يجري داخل النظام، ولم يرفض حافظ تدخلهم في شؤونه العائلية، وفق رواية الشرع الذي يقول أيضاً إن الأسد أرسله مرافقاً لعلييف، طبعاً لمعرفة ما يدور من حديث مع رفعت.

بعدها، رقى حافظ أخاه إلى منصب نائب الرئيس، وفي نفس الوقت خفض سلطاته، وطلب منه أن يسلم صلاحياته العسكرية ولم ينجح رفعت في الإبقاء على نفوذه. وفي النهاية بات رفعت وضباطه الكبار تحت رحمة الرئيس. كان حافظ، «خلف الستار، هو نفسه من أوحى بعملية تفكيك الصلاحيات هذه التي سارت بشكل سريع وفعال. وكان الرئيس يشير ويومئ، لكنه رفض في أية لحظة أن يظهر نفسه طرفاً في الصراع، وتصرف دوماً على أنه فوق الأزمة وأنه هو الذي يحلها».

يقول الشرع، أيضاً، إن الرئيس حافظ حاول أن يوجد مخرجاً كريماً لشقيقه، والحقيقة أنه أراد أن يتخلص منه، بعد أن صار طرفاً ومنافساً على الحكم. فقد كان بإمكانه الإبقاء على رفعت نائباً للرئيس بصلاحياته التي منحت له سابقاً. «قمت في ضوء كل ذلك، وبطلب من الرئيس الأسد، بإيجاد مخرج لائق لرفعت في إبعاده عن سوريا، وذلك بالاتصال مع السفير الفرنسي لترتيب أمر زيارة رسمية له كنائب للرئيس، ومن ثم بقائه هناك في باريس حسب القوانين الفرنسية. رفضت وزارة الخارجية الفرنسية استقبال رفعت، عدت وطلبت ذلك من جديد، وانتظرنا عدة أيام أخرى، لكن الفرنسيين لم يغيروا يومئذ من موقفهم، وتسبب ذلك بالتوتر بيننا وبينهم».

يروي الشرع، أيضاً، أنه لجأ للحليف السوفييتي، «اتصلت مع فلاديمير يوخين السفير السوفييتي في دمشق لهذا الهدف. وكان يوخين في ماعدا أنه سفير دولة صديقة، يعرف من دون أي شك مشكلة رفعت وفصول الأزمة الثقيلة التي تسبب بها، كما أن القادة السوفييت، لا سيما نائب رئيس مجلس الوزراء السوفييتي وعضو المكتب السياسي علييف، كان في صورة المشكلة، وتعرف إليها بشكل مباشر إبان زيارته دمشق. ولهذا جاء رد السوفييت سريعاً»، ورحبوا بالطلب. حلاً للمشكلة. عندها قرر حافظ إرسال رفعت في زيارة رسمية بصفته نائباً لرئيس الجمهورية «بكامل المراسم، مع كبار الضباط الآخرين»، لتكون رحلة الوداع مع نحو 70 من ضباطه للإقامة منفياً في أوروبا إلى أجل غير مسمى.

رفعت تعاون وارتضى الخروج من سوريا كلها حلاً للمشكلة، إلا أن حافظ لم يشأ أن يترك الأمور دون أن يسيطر على تفاصيلها الصغيرة. أرسل موظفه المخلص، الشرع، معه في الطائرة إلى موسكو. وأرسل قيادات أمنية أيضاً في الطائرة التي كانت تقل أيضاً ضباط رفعت الكبار «لقضاء فترة استجمام إجباري في موسكو». ويقول الشرع إن موسكو وافقت على احتوائهم، وإن بعض هؤلاء الضباط «هم رؤوس المشكلة المتشابكة. ولم يستطيعوا أن يتخيلوا أن النظام سيستمر من دونهم».

وفي الطائرة حدثت مشادات أكثرها من شفيق فياض مع رفعت الأسد، ووصلت الأمور إلى حد إشهار السلاح. ولم تهدأ إلا بتدخل العميد الخولي، «فاستبدلت الاتهامات وإشهار السلاح. بعناق ومصافحات من رفعت وفياض جاءت متأخرة بتوقيتها، مقارنة مع ما حصل من تهديدات متبادلة عند مداخل دمشق قبل بضعة أسابيع، جاءت المصافحات بين الرجلين في الوقت المناسب بانتظار الهبوط في مطار موسكو بعد دقائق معدودة».

وأدار الكرملين المسرحية بمهارة، ففي مطار موسكو استقبلوا رفعت بشكل رسمي بروتوكولياً بوصفه نائباً للرئيس، وجلسوا على طاولة محادثات رسمية، ويروي الشرع أنه كان ينقل تفاصيل اللقاء إلى حافظ بما فيها النكات والأخبار الهامشية، وكذلك ما صرح به رفعت للتلفزيون الروسي. الشرع في مذكراته يذكر أنه تدخل في صياغة التصريح بتصرف «ومع أن رفعت يتقن الحديث بلغة سليمة، فإن ما كنت أخشاه أن يأخذ الروس بتصرف ما يناسبهم أو أن يبوح رفعت بما هو غير مناسب حول الأزمة».

في تلك الأزمة الخطيرة، كان رفعت يملك قوة على الأرض في دمشق، وتحالفات مع قيادات عسكرية مهمة، وكان بإمكانه خلال غيبوبة أخيه حافظ الأسد أن يستولي على الحكم، لكن رفعت لم يفعل. وحتى عندما طلب منه حافظ أن يغادر البلاد أذعن والتزم بتعهده بألا يثير مشاكل ضد النظام. مبادرة موسكو آنذاك هي التي أنقذت النظام من الفوضى والاقتتال. نتذكر تلك الأحداث الخطيرة اليوم ونرى الفارق كبيراً بين موسكو الأمس وموسكو اليوم، وأسد الأمس وأسد اليوم.

بشار الأسد، رئيس النظام، ارتكب أعظم كارثة سياسية وإنسانية في منطقة الشرق الأوسط. وكان خروجه أو إبعاده من الحكم ضرورة منذ خمس سنوات، بعد أن عالج الأزمة بالقتل والدمار بدرجة استحالت المصالحة بعدها. واستمرار بقائه سيؤدي إلى كوارث أعظم للنظام السياسي، وعائلته، وطائفته، والبلاد، والمنطقة بل والعالم كله، بسبب تنامي الإرهاب. ولو أن الروس فعلوا في هذه الأزمة ما فعلوه في عام 1984، وأيدوا الدعوات إلى إجباره على التنحي، لكانوا قد حقنوا دماء مئات الآلاف، ومنعوا كارثة تشريد أكثر من عشرة ملايين سوري، وما كانت ظهرت المنظمات الإرهابية التي التحق بها عشرات الآلاف من أنحاء العالم. اليوم الدور الروسي بدعمه يَصُب الزيت على النار، وفي النهاية سيكتشف الجميع أن الأسد عاجز عن الحكم رغم كل هذا الدعم والحرب عنه بالنيابة، لأن نظامه تفكك، والآلة الأمنية والعسكرية التي بناها أبوه حافظ قد تحطمت.

ولو يلعب الروس دوراً إيجابياً في ما تبقى من زمن الأزمة، ويساندون إقصاء الأسد، فإنهم بذلك سيرممون ما تبقى من سوريا، ومن صورتهم، وينهون هذه المأساة الكبرى.

Email