على هامش المساواة والتمييز

ت + ت - الحجم الطبيعي

الدول الديمقراطية ليست بالضرورة مثالية، أو خالية من المشكلات التي تتعلق بالعنصرية والتمييز والفساد، وغيره من الظواهر الاجتماعية المختلفة والتي تصاحب وجود أي اجتماع إنساني؛ الفارق بين الدول الديمقراطية والدول التسلطية يكمن في أن الأولى توجد بها آليات ومؤسسات لمناهضة هذه الظواهر السلبية..

وتصحيح نتائجها في الواقع، وهذه المؤسسات والآليات تنشأ وفق القوانين المعمول بها، وتعتبر جزءا لا يتجزأ من العملية الديمقراطية، بينما في الدول التسلطية لا توجد مثل هذه الآليات والمؤسسات.

المجتمعات الديمقراطية لا تتستر على انحرافاتها وتحيزاتها بل تكشفها، وتخضعها للنقاش العام، الذي تشارك فيه معظم الأطراف المعنية، وتتفق من خلال هذا النقاش على خلق وتأسيس آليات قانونية وسياسية لمحاربة هذه الانحرافات والتحيزات..

بينما في المجتمعات التسلطية يتم التستر على الأخطاء والانحرافات عبر التواطؤ الجمعي عليها، تحت دعاوى مختلفة تخفي وراءها مصالح وتحيزات اجتماعية وسياسية وتغلق الباب أمام قدرات المجتمع على مواجهة هذه الظواهر واحتواء نتائجها.

يزخر المجتمع المصري بمظاهر عديدة لانعدام المساواة والتمييز، ضد فئات عديدة من المواطنين، إما بسبب ديانتهم ومعتقداتهم أو بسبب الأصول الاجتماعية والمهنية، وفي جميع الأحوال فإن الصمت حول هذه الظواهر أو النقاش حولها موسميا، أي لدى حدوث وقائع تشير إليها، لا يفعل إلا أن يفاقم تلك الظواهر ويحول دون معالجتها وتصحيح نتائجها، ليس بهدف الوصول إلى مجتمع مثالي، بل إلى مجتمع قادر على مواجهة عيوبه بنفسه والسيطرة عليها وتصحيح آثارها.

منذ فترة مضت اقترح المجلس القومي لحقوق الإنسان إنشاء مفوضية لمناهضة التمييز، وهو اقتراح مهم يعبر عن ثقة الدولة في أدائها وقدرتها، واعترافها بوجود حالات التمييز التي تستحق إنشاء هذه المفوضية، وتعبر عن رغبة الدولة في مكافحة هذه الظاهرة عبر المؤسسات والقانون..

في فرنسا أنشئ المجلس الأعلى لمناهضة التمييز، ويستطيع أي مواطن فرنسي أن يخاطب هذا المجلس ويعرض عليه الموقف الذي الذي يرى فيه ممارسة تمييزية، ويقوم المجلس بمخاطبة الجهة المعنية وفق القانون؛ لوقف هذه الممارسة وإقرار حقوق المواطن.

في مصر وفي الأعوام الأولى من الألفية الثالثة ثمة خبرة مصرية مميزة في هذا المجال، وإن كانت قد تعرضت لحصار سياسي ومادي من بعض الجهات، وهي خبرة إنشاء المنظمة العربية لمناهضة التمييز، وكانت مهمتها ملاحقة جميع صور التمييز العنصري الذي تمارسه إسرائيل ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، أو في الأراضي المحتلة وفضح انتهاكات إسرائيل للحق في المساواة..

وأنشأت هذه المنظمة موقعا على الشبكة الدولية للمعلومات، وكانت ترصد بانتظام الممارسات الإسرائيلية وبالوثائق والتصريحات لمختلف المسؤولين الإسرائيليين، لم تتمكن المنظمة العربية لمناهضة التمييز من ملاحقة صور عدم التمييز في الداخل المصري أو العربي ..

وكانت تعتبر هذه الملفات أمنية بالدرجة الأولى وأحد الخطوط الحمر التي لا يجب تخطيها قامت هذه المنظمة بإصدار نشرة بعنوان «ضد التمييز» ونظمت تدريبا ودورات تثقيفية للعاملين حول موضوع المساواة والتمييز، وأصدرت العديد من الكتيبات حول هذه القضايا، ولكن للأسف الشديد لم تحظَ المنظمة العربية لمناهضة التمييز بأي دعم من رجال الأعمال أو غيرهم رغم أنها لم تتوقف عن طلب الدعم، لم يقتنع أحد بأهمية رسالتها آنذاك..

لأن ظروف ما قبل الخامس والعشرين من يناير عام 2011 كانت تضع العديد من القضايا والملفات ضمن فئة «المحظورات»، الآن وبعد الثورة انكشف الغطاء عن مشكلات المجتمع المصري وأصبح النقاش مفتوحا حول كافة الممارسات والظواهر، وهو الأمر الذي يبرر إعادة النظر في تراث هذه المنظمة وبعثه إلى الحياة سواء في إطار مفوضية مناهضة التمييز أو تحت أي مسمى آخر.

إن الطريق لمواجهة ظواهر التمييز والعنصرية يمر عبر كشف الممارسات التي تنطوي على ذلك، وملاحقتها قانونياً وقضائياً، عبر آليات ومؤسسات تعتبر جزءا لا يتجزأ من العملية الديمقراطية وبنية الدولة المدنية الحديثة؛ دولة كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات.

 

Email