الصابر المسكين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حذر، حميم، لعوب، متحمس، رضوخ، قوي، حمول، هادئ، شغولٌ، ولا أغضبكم إن قلت ذكي ولمّاح ومتأمّل وحنون، بقدر ما تظلمونه أنه عبيط وغبي وأبله وشارد الذهن، وتمدحونه فقط بأنه «الصابر».

إنه الأصيل في تحمّل غضب صاحبه وثقل متاعه، فهو متسامح، متأمّل إن أغمض عينه، وحنون إن فتحها، وطيب ودود إن نظر إليكم، متجذّر في هذه الأرض منذ أن رافق قابيل في حلّه وترحاله.

قديم قِدَم الإنسان على هذه الأرض، أول ما صادق بني البشر، إذ كان أول من استأنس البشر وقبل الترويض خدمة لسيده الإنسان، له الفضل الأول في بناء إمبراطوريات وحضارات وأمم سادت وطغت وتجبّرت واستكبرت من الغرب إلى الشرق.

مسعف للجنود في الحروب، إذا نقص عليهم الغذاء والدواء، مركبة الإنسان الماهرة في الوعر، والجبال، والمنحنيات، عند العرب استعارة للتعبير عن غباء فلان وعلاّن، وعند الغرب يستعيرون به عن الأعمال الوظيفية الشاقة الضرورية، قدّسه الرومان القدماء، وشغل «منصب» إله الصحراء عند الفراعنة، وكانت هيئته المساعد الأمين للإله الفرعوني «رع».

فهل عرفتموه؟ إنه الحمار، وقد أبلى قبل أيام وما زال، بلاء الأبطال والمغاوير في الوصول إلى الجرحى والمحاصرين الناجين في الأحياء السكنية المدمرة بالمناطق الوعرة في جبال نيبال جراء الزلزال المخيف الذي أودى بحياة نحو 5000 ضحية في العاصمة كاتمندو، فبدا فريداً من نوعه في خدماته وهدوء أعصابه ومعرفة الطرق الأسهل.

الحمار جاهز للمساعدة دائماً، فهو لا يضلّ طريق بيت صاحبه أبداً، يأخذ من الطرق أسهلها وأيسرها حتى قيل (السهولة للحمار).

بل يستعين به بعض المهندسين في شق الطرق لصواب اختياره الطرق الأسهل في الجبال الوعرة. أطلق حمار واتبعه لشق الطريق، نظرية هندسية أثبتت نجاحها في جبال لبنان، حيث يقام مهرجان سنوي ترفيهي لسباق الحمير واختيار أجمل أتان «حمارة».

للحمير في بلدانها شخصياتها، فالحمار القبرصي الأشهب كبير القامة، يضرب فيه المثل بالجمال والتحمّل. في اليونان وبعض المناطق السياحية الوعرة في بلدان أخرى، حيث تعجز الخيول والثيران ولا يوثق بالبغال، يأتي الحمار الأكثر وداعة، والأذكى في المنحدرات من مرشد سياحي. فبخدماته الفريدة يكون نكهة ترويجية، ويمكن اعتباره إحدى دعامات الاقتصاد السياحي.

أحد الحمير تسلّل مؤخّراً بعدما أصابه الملل من طول انتظار صاحبه عند أحد الورش في المباني الخلفية لمطار القاهرة. أليس من الذكاء أن يتجاوز حمار كل نقاط التفتيش والمراقبة فيفاجأ به السياح يحييهم ويناكف رجال أمن المطار.

وفي حين أن الحزب الديمقراطي الأميركي نسب الحمار له رمزاً، نجد أن الحمار تهاوت مكانته وانحدرت من مقام الحكمة والتنكيت والسخرية منه إلى الإعدام في النزاعات، إلى أن بات مخزوناً استراتيجياً للجوعى وقت الحروب، فيحلو لحمه وقت المجاعات والحصارات، فتجد الحمار طيعٌ سهل المنال، فيتفاجأ به الجائع على باب منزله وقد اجتاز مفترقات النيران ونقاط التفتيش وعيون القناصة والرصاص الطائش.

ولا شك أن الحمار عانى الأمرين في بلاد العرب، سواء بالنكات والنوادر، أو لكونه الملازم الدائم لجحا الذي ذاع صيت حماره قبله، وصولاً إلى ما يسمى «الربيع العربي»، حيث تم إعدام مجموعة من الحمير بتهمة خدمة طرف، أو «التجسس» وتهريب المؤن، أو المحاولات الانتحارية الفاشلة.

وقد أقيمت للحمير حفلة إعدام مصورة وببث حيّ ومباشر، حضرها كبير «الدواعش» ونقلتها الفضائيات العالمية المعنية بالرفق بالحيوان.

والسؤال الذي يطرح نفسه، لو أن بعض الدول العربية خلت من الحمير إما بالأكل أو بالقنص أو بأحكام الإعدام، هل ستتغير الأحوال للأفضل أم تسوء فوق ما هي سيئة! أقول للذين ضاقت بهم بلادهم فحاصرتهم دون رحمة، ادّخروا البرسيم لحميركم، بقدر ما تدخرون الغذاء لكم، فالحمار حليفكم الأبيض ليوم جوعكم الأسود.

مسكين هذا الحمار الصابر، حتى في «الربيع العربي» لم يحالفه الحظ، فبدلاً من أن ينعم بالخضرة والبراري، أصبح مهدداً بالانقراض إما بالإعدام بتهمة التجسس أو بالأكل. إنه الصابر المسكين، نأمل أن يبقى منه القليل بما يضمن تناسله منعاً للانقراض

 

Email