التمكين للعربية حفاظاً على الهوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما نقول «أمة» أول ما تنسب إليها هي اللغة التي تتحدث بها باعتبارها مكوناً أساسياً لهويتها التي تتميز بها عن غيرها، كما أن دساتير الدول تحدّد اللغة التي يتواصل بها أفراد شعبها، والمستخدمة في المكاتبات والمؤسسات الرسمية.

وعندما نقول «اللغة الأم» فإن ذلك يعني أن هناك رباطاً سرياً يربط بين اللغة وأهلها ويفطرهم على حبها، كما أن التمسك بها هو من دروب البر، والبعد عنها إلى غيرها هو العقوق بعينه الذي لا ينتج عنه غير الفشل، وعبر التاريخ ودروسه خير شاهد. هل بمقدور أحد أن يغير أمّه أو يتبرأ منها؟، لعمري إن ذلك من علامات الهوان.

واللغة في تقديري هي أهم أدوات تمتين النسيج المجتمعي والحفاظ على قوته ووحدته لأننا لا نتواصل بها فحسب، بل نفكر كذلك بها ونبدع من خلالها وندرك ما حولنا من أحداث ومواقف مستعينين بتراكيبها. أرأيت حين يرتفع العلم خفاقاً لتخشع معه حواس الفرد وتتزايد دقات القلب لأن دلالاته كبيرة، كذلك اللغة فهي الكاشفة لكينونة الفرد وثقافته وتاريخه، ولذا قيل إن العربية اللسان - إذا ضاعت أو فقدت تغيبت معها ملامحها.

ولم يقص علينا التاريخ أنّ أمة شيّدت حضارة بغير لغتها، أو أن أمة أهملت لغتها كان لها شأن، بل إن هناك رباطاً وثيقاً بين تحضّر الأمم والاهتمام باللغة، كما أن ضحالة اللغة وفقرها كان دوما الكاشف لحالة تأخر الأمم وتراجعها في مجالات شتى، لأن الحضارة قائمة على الفكر الإنساني واللغة هي أهم أدوات الفكر وهي الحضارة، كما أن الثراء الحضاري هو انعكاس للثراء اللغوي وغناه، كما أن الصراع الإنساني اقترن دوما بالصراع اللغوي، والمعارك العسكرية قد تنتهي وتمحى آثارها أو تداعياتها إلا أن المعارك الثقافية تمتد آثارها عبر أجيال مختلفة حتى وإن رحل الغازي بقواته، غير أن إقامة الحواجز النفسية بين الفرد ولغته هي البداية للتأثير على فكره، كما أنها بداية التراجع والتخلف وانعدام الثقة بالنفس.

التعامل مع اللغة العربية لا يتوقف عند كونها لغة تصون الهوية، بل إن لغتنا هي لغة الوحي التي أنزل الله بها القرآن ونشرها بين الناس من الدين، والله سجانه وتعالى قد تكفل بحفظها، وهذا يعني أن حمايتها والتمكين لها هو لون من ألوان التعبد والتقرب إلى الله.

الاهتمام باللغة العربية، باعتبارها مكون أساس للهوية، ليس حالة خاصة بنا، إذ إن كل الأمم التي لها تاريخ وحضارة تعتز بلغتها وتنبري للدفاع عنها، فالصينيون لم يحقّقوا ما حقّقوا من تقدم اقتصادي بغير لغتهم، والألمان لم يتقدموا بغير الألمانية، وكذلك بالنسبة للفرنسيين وغيرهم، بل إن هناك من أحيا لغة ماتت مثل العبرية.

إننا لا ينبغي أن تتوقف دعواتنا عند حد التمسك بلغتنا الجميلة ولكن يجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك لتعليمها لغير الناطقين بها - وهم يكفوننا مؤنة البحث عنهم لأنهم بيننا لفترات تمتد إلى سنوات بدلاً من تحريفها للتواصل مع بعضهم - باعتبار أنها إحدى أدوات الحضور والتأثير الثقافي لأية أمة.

لا شك أن هجر اللغة العربية يعني هجر الثقافة بما له من تداعيات على أجيال قادمة صار بينها وبين لغتها الأصيلة حاجزاً في ظل تحديات العولمة وما تفرضه من لغات أجنبية، وتحديات وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد وما أنتجته من لغة المؤانسة التي تمثل خطراً بالغاً على جيل بأكمله، ولقد واجهت الدعوات التي نادت بالكتابة بالعامية في أوائل القرن العشرين معارضة شديدة باعتبار أن توثيق العامية يمثل خطراً شديداً على الفصحى، ولنتأمل اللغة التي يتخاطب بها الشباب العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث لا ترقى حتى إلى العامية فضلاً عن حروفها غير العربية في الأساس.

لذلك لم تهدف مبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد للتمكين للغة العربية وجعلها اللغة الرسمية في الدوائر والمؤسسات إلى الحفاظ على اللغة فحسب، بل الحفاظ على الهوية الوطنية، كما أن جائزة محمد بن راشد للغة العربية هي إحدى آليات التمكين والتقدير لجهود العاملين في ميدان اللغة العربية، سواء كان عبر جهود مؤسسية أو مبادرات فردية، إضافة إلى تعزيز مكانة اللغة العربية في المناهج الدراسية، وتشجيع ثقافة القراءة باللغة العربية وهو ما أكد عليه سموه حين أطلق ميثاق اللغة العربية قائلاً «إن لغتنا العربية هي لغة حية غنية نابضة بالحياة، بقيت محافظة على أصالتها لأكثر من ألفي عام، وتتميز بقدرتها على مواكبة الحاضر والمستقبل، والمساهمة في الحفاظ على اللغة العربية هي قيمة إسلامية وفريضة وطنية، وترسيخ لهويتنا وجذورنا التاريخية»،

هذا الإعلان عن ميثاق اللغة العربية ما هو إلا إعلان وفاء للغتنا الأم، التي باتت تعاني الاغتراب بين أبنائها، وما هو إلا دليل على المضي قدماً في مسيرة الحضارة على نهج الواثق من خطاه والمتمسك بجذوره وهويته الأصيلة.

Email