كوارث الهجرة إلى الشمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تعد الهجرة إلى الشمال، أي الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، طريقاً مأموناً أو أمناً أمام الآلاف من المهاجرين من بلدان جنوب المتوسط الباحثين عن الأمل في حياة مستقرة بعيدا عن العنف والبطالة والتفكك والفقر الذي يسود بلدانهم، بل أصبح الطريق إلى الشمال محفوفاً بمخاطر الموت غرقاً على بعد بضعة كيلومترات من الشواطئ الأوروبية، وأصبح البحر الأبيض المتوسط مقبرة بحرية لأولئك الذين يراودهم الحلم الأوروبي والنجاة بأنفسهم من سوء المصير الذي ينتظرهم في بلادهم.

تتوالى حوادث وكوارث غرق المهاجرين من جنوب المتوسط بطريقة غير مسبوقة، واللافت للنظر أن هذه الكوارث المتلاحقة لم تحظَ من قبل حكومات دول جنوب المتوسط بالاهتمام الكافي، إذ ينظر الكثيرون من المسؤولين في هذه الدول والحكومات إلى كل كارثة باعتبارها الأخيرة دون اتخاذ ما يلزم من قرارات وسياسات تحول دون إعادة إنتاج هذه الكوارث.

علي النقيض من ذلك فإن ردود الفعل الأوروبية على هذه الكوارث ذهبت كل مذهب وطرقت جميع الاتجاهات والحلول وقدمت توصيات للحكومات والمسؤولين بل وحملت الحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي جانباً من المسؤولية السياسية والأخلاقية في هذه الكوارث واعتبرتها عاراً ينبغي لأوروبا أن تتخلص منه.

في بلدان جنوب المتوسط ألفنا الموت والعنف وربما اعتادت أعيننا وحواسنا على تلك المشاهد العنيفة التي لا تقيم وزناً لقيمة الحياة الإنسانية والحق في الحياة، وذلك من جراء تكرارها وكثرة حدوثها وربما اعتبارها قدرا لا مفر منه إذ يخرج بعض المواطنين لكسب قوتهم والبحث عن لقمة العيش وقد لا يعودون إلى ذويهم ومنازلهم بسبب تفجير هنا أو هناك أو اعتراض ميلشيات طائفية طريقهم وإطلاق النار عليهم، تفكك الدولة الوطنية أفضى إلى إنتاج ظواهر جديدة كغياب القانون والدولة.

وتحكم العصابات والميلشيات في مصائر الناس، وربما بسبب كل ذلك ثمة حالة من عدم الاكتراث بغرق مئات الضحايا في المتوسط مقارنة بعدد من يسقطون ضحية الموت في بلدانهم يوما بعد يوم، وكأن الموت في المتوسط أو في الأماكن التي وفدوا منها أصبح قدرا لا مفر منه وكأن الحق في الحياة أصبح ورقة في مهب الريح.

في أوروبا حظيت هذه الكوارث غير المسبوقة بتأملات واقتراحات لسياسات بديلة عن السياسات الحالية المطبقة التي تتمثل في حماية الحدود وإغلاقها وتشديد الرقابة عليها عبر منظمات أنشأها الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، من بين هذه التأملات أن هذه الكوارث ستتكرر وستحدث مرات ومرات طالما بقيت الأوضاع على ما هي عليه أي إغلاق الحدود ومراقبة الشواطئ والحدود وحظر الهجرة من هذه البلدان.

وأن استمرار هذه السياسات من شأنه أن يعزز الهجرة السرية وأن يتعرض الآلاف من المهاجرين لسماسرة ومافيا تهريب المهاجرين في البلدان الأخرى في جنوب المتوسط خاصة وان العديد من هؤلاء المهاجرين ليس لديه ما يفقده وهم على استعداد لتكرار المحاولة حتى الموت ويحظى بشرف هذه المحاولة التي هي أفضل بكثير في نظرهم من التواطؤ مع الأوضاع القائمة والعيش في ظلها والتي تفقدهم الأمل في الحياة.

في مواجهة هذه السياسات يقترح العديد من الباحثين والمختصين سياسات بديلة تتلخص في ضرورة فتح الحدود وبيع تأشيرات الهجرة وتحديد عدد المهاجرين اللازمين للعمل في بعض القطاعات الاقتصادية الأوروبية لكل دولة أوروبية على حدة، ذلك أنه لا أمل في إنهاء هذه الظاهرة عبر تطبيق سياسات حظر الهجرة وإغلاق الحدود، يرى هؤلاء أن الهجرة مصدر ثراء للبلدان الأوروبية .

وأن تجارب العديد من البلدان الأوروبية عبر التاريخ الحديث والمعاصر تؤكد ذلك وأن الحل يكمن في الانفتاح وليس في الانغلاق وفتح الحدود وتنظيم التأشيرات وبيعها للمهاجرين وتخصيص حصة من المهاجرين لكل دولة أوروبية.

يذهب النقاش الأوروبي حول هذه القضية إلى أن أوروبا ينبغي أن تنحاز لمبادئها وقيمها الإنسانية وأن تتبنى من السياسات ما يتوافق مع هذه المبادئ ولا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مثل هذه الكوارث بل وأن تقوم بجهد كبير لدعم بلدان جنوب المتوسط من أجل استعادة الاستقرار والدولة لأن مشكلات الجنوب ليست بعيدة عن أوروبا بل يفصلها بضعة كيلومترات التي يمثلها مضيق جبل طارق الذي يفصل بين أوروبا وبين بلدان الجنوب.

 

Email