الأقليات ومعضلة الأمن القومي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ تأسيس الدول الحديثة في منطقة الشرق الأوسط على أسس قومية أو دينية كان التعامل مع «الأقليات» التي تقطن فيها نقطة الضعف الكبرى في أمنها القومي وكانت الفرضية التي تقول بأن الأقليات تلعب دوراً في عدم استقرار هذه الدول موضع اهتمام جدي لدى الأوساط الأكاديمية.

لسنا بصدد القول بأن هذه الأقليات سعت لأن تكون وشائج ارتباطها بالأوطان التي تسكنها ضعيفة حين تتوافر وشائج ارتباط أخرى لها خارجه قدر ما نقصد بأن الأوساط السياسية التي لم تعر هذه الناحية ما تستحق من اهتمام قد جعلت ذلك، إلى حد ما، أمراً ممكناً لأنها لم تعمل على تبني مبدأ دولة المواطنة التي يحق فيها لكل فرد ما يحق للآخرين من حقوق وما يترتب على ذلك من واجبات دستوراً وممارسة، بغض النظر عن الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الجنس أو الانحدار الطبقي.

مشكلة الأقليات في كل مكان من العالم هو شعورها بأنها غير آمنة على نفسها وعلى غدها ويتفاوت قوة هذا الشعور من دولة لأخرى، ففي الغرب الذي تحكم مجتمعاته أنظمة ديمقراطية تسود فيها تقاليد عريقة في احترام حقوق الإنسان يتراجع الشعور بعدم الاطمئنان كثيراً في حين نرى في بعض دول المنطقة أن من السهولة بمكان أن تقوم الحكومات القائمة بنزع الجنسية عن بعض مواطنيها ممن ترى في أفكارهم أو في نشاطاتهم خطراً يهدد أمنها.

كما عمدت بعض الدول وبشكل منظم إلى اتخاذ إجراءات من شأنها إحداث تغييرات ديموغرافية في محاولة لتذويب الخصائص التي تتمتع بها بعض الأقليات التي تمتلك حجماً، مساحة وسكاناً، يؤهلها لتصبح دولاً مستقلة.

وكان لذلك أن يجعل من هذه الأقليات أهدافاً سهلة لقوى عالمية أو إقليمية لمداعبة طموحاتها واستغلالها لتقويض الأمن القومي لهذه الدول. ولا نحتاج للخوض في هذا الأمر كثيراً لنرى مدى صدقيته فمعظم عوامل عدم الاستقرار وتهديد الأمن القومي لدول عديدة في منطقة الشرق الأوسط ترجع إلى ذلك.

هناك بعض الالتباس يحيط بمصطلح «الأقلية»، فعلى الرغم من عدم وجود تعريف قانوني متفق عليه لهذا المصطلح في القانون الدولي إلا أنه مما لا يختلف عليه اثنان فإن «الأقلية» في بلد معين تعني مجموعة من السكان تختلف في الدين أو المذهب أو اللغة أو الثقافة أو الآيديولوجية أو السلالة عن الأغلبية التي تمسك نخبها مقاليد السلطة.

وقد تكون هذه المجموعة أقلية بسبب صغر حجمها أو بسبب ضعف وزنها وتأثيرها في المجتمع رغم كبر حجمها.

وتجد هذه الأقليات أمامها بعض الخيارات للعيش في مجتمعاتها كأن تنخرط وتتكامل كلياً وتذوب في المجتمع وتتبنى تقاليده ونمط حياته وتفكيره، أو تحافظ على وجودها كياناً متميزاً وذلك حسب طبيعة هذه الأقلية وطبيعة الحياة السياسية السائدة في المجتمع.

فقد تعمد إلى تشكيل منظمات مجتمع مدني أو أحزاب سياسية في الدول الديمقراطية أو تعمل على حماية نفسها عبر الانخراط في تنظيمات سرية أو تكوين مليشيات مسلحة في دول غير ديمقراطية لم تجد ضرورة لإجراء بعض الإصلاحات الدستورية والمجتمعية لمواكبة التطورات التي تحدث في العالم خاصة ما يتعلق منها باحترام حقوق الإنسان.

شهدت منطقة الشرق الأوسط عبر تأريخها الطويل والغني بالأحداث والأفكار والحركات السياسية ظهور أقليات كثيرة جداً، قومية ودينية ومذهبية وثقافية في بيئتها الخاصة إضافة إلى أقليات أخرى مهاجرة بسبب جاذبية المنطقة اقتصادياً ودينياً وثقافياً.

بعض هذه الأقليات لم يكن لديها غير أفكار مجتزأة عن تأريخها وتراثها المشترك لذلك لم تستطع مقاومة التيارات الكبيرة الجارفة دينياً أو قومياً أو لغوياً فذابت فيها وغيرت تبعاً لذلك هويتها.

في حين حرصت أقليات أخرى تتمتع بإحساسٍ قوي بالهوية الجمعية وبتأريخ تفخر بالانتماء إليه على البقاء متميزة عن الآخرين رافضة الذوبان في الأكثرية المجتمعية كما هو حال الصابئة المندائيين والأيزيدين في العراق أو الأقباط في مصر أو العلويين في سوريا أو الدروز في كل من سوريا ولبنان أو الحوثيين في اليمن.

لا تخلو دولة في العالم من وجود أقليات أصلية من تربة البلد نفسه أو مهاجرة استوطنت في إحدى الدول الغربية لأسباب سياسية أو اقتصادية، وقد انخرطت بعض هذه الأقليات وذابت في المجتمعات الجديدة ولم تعد تشعر بالغربة فيها في حين لم تفعل ذلك أقليات أخرى أصبحت موضع توجس وخطر أمني محتمل في نظر المؤسسة الرسمية القائمة، وهو ما حدا ببعض القادة الأوروبيين للتصريح بفشل التعددية الثقافية في مجتمعاتهم.

وجود الأقليات يعني من حيث المبدأ عامل إثراء ثقافي وحضاري في المجتمع، فالتنوع وتعدد اللغات أو اللهجات يشكل طيفاً جميلاً طالما لا يتسبب في مضايقة آخرين. إلا أنه في ظروف الاحتقانات السياسية يعتبر من العوامل التي تزعزع الاستقرار السياسي وقد تهدد الأمن القومي للبلد.

 

Email