الغائبون ليسوا غائبين

ت + ت - الحجم الطبيعي

أن تدق على الباب لتخرج لك امرأة بكامل صهيونيتها تقول لك: تفضل، اعلم أن هذا بيتكم لكنه الآن بيتنا، بينما أعد لك الشاي تجول في بيتكم، أقصد بيتنا، خذ ما شئت بعينيك وأرحل، وهل ترك الموقف في عينيه متسعاً لأي شيء غير الدموع؟! يتحسس الحيطان التي فقدت لونها ولم تفقد حجارتها التي بناها جده، يتلمس مكان خطواته وهو طفل بالكاد يمشي، هنا كان يلعب، هنا كان يأكل مع أمه وأبيه واخواته، هنا كان يذهب إلى أقرانه في البيارة، من هنا كان يمشي مع عمه إلى بحر يافا يتعلم السباحة ويملأ رئتيه الصغيرتين بالهواء البرتقالي وباليود ويعود، من هنا خرج ذات نكبة ولم يعد.

إنه حال الفلسطينيين الذين اجبروا على ترك بيوتهم وبياراتهم وبحرهم إلى مشارق الأرض ومغاربها في ما سمي حرب 1948، وهي لم تكن في الحقيقة حرباً بل الدخان الذي غطى تنفيذ وعد بلفور بإقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين».

لقد ترك الفلسطينيون بيوتهم لكن البيوت لم تترك مكانها، وحين غادروها أغلقوا أبوابها وأخذوا مفاتيحها معهم، لم يعودوا وظلت المفاتيح معهم وتمسكهم بـ «حق العودة» الذي أصبح مثل غودو صامويل بيكيت، يأتي ولا يأتي!

لقد تعرضت أرض فلسطين إلى الكثير من الغزوات والحروب التي كان آخرها الاحتلال الصهيوني، الذي استطاع تسويق فكرته إلى العالم بكل وسائل الإقناع التي يتبعها المسوّق الجيد لفكرة آمن بها، فكرس جل جهده لتحقيقها متجاهلاً حقوق الآخرين، نابذاً وراء ظهره القيم والمبادئ، مقنعاً نفسه ومن يتبعه بأنه شعب الله المختار ولا يرقى الآخرون إلا أن يكونوا خدماً لهم، مستشهدين على ذلك بنصوص من التوراة المزيفة والتلمود الذي كتبته أيديهم، ثم امنوا بها واعتقدوا، فأصبحوا كمثل الذي كذب الكذبة وصدقها.

إن إنكار الصهاينة لحق الفلسطينيين والعرب في الأراضي التي يحتلونها نابع من معتقد فكري يقوم على أساس ديني، يأمرهم باستعادة إرثهم السليب وتحرير هذه الأرض من العرب (المحتلين) وإعادة الرب وإسرائيل في صهيون، ففكرة اصطفاء الرب لهم جعلتهم غير متقبلين لوجود أحد غير اليهود على هذه الأرض، الأمر الذي يفرض عليهم وجوب إفراغ الأرض وترحيل من عليها.

فالتوراة أعطت اليهود - على حد ما يزعمون - خيارين متناقضين لاستعادة الأرض «... فإذا أنتم أفنيتم الشعوب تسكنون الأرض، أما إذا لم تبيدوهم تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم مناخس في جنوبكم».

وبعد أن استطاع الصهاينة إقامة كيانهم «دولة إسرائيل» وأقنعوا العالم بالاعتراف بها في الأمم المتحدة شرعوا في بناء المستعمرات والكيبوتسات وأنشأوا الوكالة اليهودية العالمية لتتولى تهجير اليهود من بلادهم الأصلية في أنحاء العالم والاتيان بهم عبر الإغراءات المادية والدينية إلى فلسطين ليحلوا محلهم، شعب إلى خارج أرضه وأقوام لا يجمع بينهم سوى الديانة إلى أرض ليست أرضهم. إنها المفارقة التي لم يسجل التاريخ مثيلاً لها.

وكما هي اللعبة الصهيونية في كل الجرائم كان لا بد أن تغطى باسم الديمقراطية. وتحت قبة الكنيست كانت تتم المهزلة القانونية. وفي العام 1950 أقر ما يسمى «قانون أملاك الغائبين» وهو يشرع بموجبه ‏الاستيلاء على الأراضي والممتلكات التي تعود للفلسطينيين الذين هجروا منها ونزحوا عنها إلى مناطق ‏أخرى نتيجة الاحتلال الصهيوني لفلسطين 1948 من خلال عصابات الهجنا وشتيرن بتواطؤ سلطة الانتداب البريطاني، ويسمح بموجبه بوضع ممتلكاتهم تحت ‏تصرف «القيّم على أموال الغائبين»، والذي يمثّل الكيان الصهيوني.

‏و«القيّم» الاحتلالي على أملاك الفلسطينيين هو موظف يعين من قبل وزير المالية الصهيوني، حيث ‏وُضعت كل أملاك الغائبين في يده ومنحت له صلاحيات واسعة في التصرف بها بشتى الطرق، حتى ‏بيعها، كما يحق له وضع اليد على أملاك الفلسطينيين حين يجد ذلك مناسباً، بمجرد الإعلان كتابياً عن ‏أي شخص أو جماعة بأنهم غائبون.‏

وسمح هذا القانون للاحتلال بالاستيلاء والسيطرة على الآلاف من المنازل والعقارات وملايين ‏الدونمات، كما هدف إلى منع عودة أي من المهجرين الفلسطينيين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي ‏تركوها قبل حرب 1948 أو أثنائها أو بعدها.

وقد طبق على نطاق واسع جداً، إذ استولى «القيّم» على أراضي نحو ثلاثمائة قرية عربية متروكة أو ‏شبه متروكة تزيد مساحتها على ثلاثة ملايين دونم، أي الغالبية العظمى من أراضي الملكية الخاصة في ‏الأرض المحتلة. وشملت الأراضي المستولى عليها مساحات واسعة من الأراضي الخصبة، والتي تقدر ‏بنحو 280 ألف دونم منها الكثير من البيارات والأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة.

‏كما تم بموجب «قانون أملاك الغائبين» الاستيلاء على ما يزيد على خمسة وعشرين ألف بناء، تحوي ‏أكثر من سبعة وخمسين ألف مسكن وعشرة آلاف محل تجاري أو صناعي، وحولت هذه الأبنية إلى ‏شركة «عميدار» لإسكان المستجلبين اليهود فيها.

واستولت السلطات الصهيونية بموجب هذا القانون ‏على ما يزيد على ربع مليون دونم من أراضي المواطنين الفلسطينيين الذين ظلوا في الأرض المحتلة ‏بعد عام 1948.‏

ويشمل تعريف «الغائبين» بحسب القانون الصهيوني، السكان الفلسطينيين الذين غابوا بتاريخ 1 سبتمبر 1948، وهم الذين نزحوا إلى الدول العربية، ‏وأيضاً الذين هجرّوا إلى قرى ومدن الجليل والمثلث، والتي لم يكن لغاية التاريخ ‏المحدد في القانون - (الأول من سبتمبر 1948)، قد احتلت بعد.

الأسبوع الماضي أعلنت حكومة نتنياهو تطبيق قانون أملاك الغائبين على القدس أيضاً في خطوة تهويدية جديدة للمدينة المقدسة تزامناً مع الخطوات التصعيدية في المسجد الأقصى، الذي أصبح على مرمى حفرية هما أو حفرية هناك ليقع ويهدم لينفذ الصهاينة حلمهم بإقامة الهيكل مكانه. لكن الغائبين ليسوا غائبين عن حقهم ببيوتهم وقراهم ومدنهم المحتلة بل مغيبين لأن التاريخ الآن يرى بعين واحدة!

 

Email