الثورة المصرية واستئناف مشروع النهضة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم ما بين مفهومي النهضة والثورة من تباين واختلاف، من حيث إن النهضة مشروع للتوفيق بين الماضي والحاضر بهدف الإصلاح والتغير التدريجي، بينما أن الثورة بالمعنى العام هي محاولة تغيير جذري للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة.

إلا أن هذين المفهومين يلتقيان من حيث إن كليهما يطمح إلى التغيير بأساليب متباينة ودرجات مختلفة للواقع القائم، ويستند كلاهما إلى رفض هذا الواقع، ويتفقان حول عدم ملاءمته لتلبية حاجات المجتمع والدولة، خاصة وأن الثورة المصرية قد زاوجت في طموحها بين الإصلاح والثورة معاً.

وبهذا المعنى فإنه يمكن قراءة الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وموجتها الثانية في الثلاثين من يونيو عام 2013، على أنها استئناف لمشروع النهضة بأساليب مختلفة، رغم الفارق الزمني الذي يفصل بينهما، ويمتد لما يقارب القرنين من الزمان.

ويستند ذلك إلى أن الثورة – أية ثورة- لا تنشأ من فراغ بل نتيجة لتراكم الأفكار والمطالب والتصورات التي تسبقها وتستلهمها في إطار إحداث نقلة نوعية تستوعب معظم هذه الأفكار والمطالب أو بعضها، في إطار أوسع وجماهيري يخرجها من إطارها النخبوي الضيق لتنتشر في الفضاء الاجتماعي والسياسي العام.

ويمكننا أن نسوق العديد من الأدلة والدلائل على حضور مشروع النهضة في رحم الثورة المصرية، ذلك أن فترة الأزمة التي عاشها المجتمع المصري كانت تموج بالعديد من الأفكار حول الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتداول السلطة.

كما أن هذه الفترة قد شهدت ولادة خطاب المشروع الوطني والقومي، وقد يكون صحيحا أن تداول هذا المشروع وخطوطه العريضة كان يتم في إطار النخبة المثقفة، إلا أن الثورة بدينامياتها وفاعلياتها قد تمكنت من تلخيص هذا المشروع بطريقة تقربه من الجمهور العريض في شعارات يسهل استيعابها والتمسك بها.

من ناحية أخرى فإن الثورة المصرية استهدفت بناء وصياغة نسخة جديدة من الدولة المصرية تتخلص من الطابع التسلطي والأمني، وتؤمن الكرامة وحقوق الإنسان المصري. وكرست الثورة المصرية منذ البداية مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية.

على ضوء ذلك، ما يجمع مشروع النهضة بمشروع الثورة هو انخراط كليهما في مشروع سياسي وطني شامل يستهدف بناء الدولة الحديثة دولة القانون، وهذا التداخل بين ما هو فكري وما هو سياسي، تداخل مشروع؛ ذلك أن الفكر والسياسة لا ينفصلان، فالفكر خاصة المتعلق بالإنسان والمجتمع هو سياسة بمعنى من المعاني.

وإذا كان يؤخذ على مشروع النهضة منذ بدايته التوجه للنخبة والصفوة وعدم قدرته على مخاطبة الجماهير، فإن الثورة المصرية باعتبارها حلقة في استئناف واستلهام مشروع النهضة خاصة في جانبه المتعلق بالدولة الحديثة المدنية دولة العدل والقانون والعلم والمساواة، قد أخرجت هذه الأفكار من الجزء النخبوي الضيق ودفعت بها إلى المجال العام، واعتبار ذلك بداية الطريق الصحيح لحل كافة معضلات المجتمع ومشكلاته.

وأظن أن الثورة المصرية قد حسمت الصراع على هوية الدولة، وأنهت تلك المراوحة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، تلك الثنائية التي رافقت مشروع النهضة المصرية خاصة منذ إلغاء الخلافة العثمانية ونمو الاتجاهات السلفية والإسلامية التي ظلت تنشد إقامة دولة الخلافة الإسلامية وترفض الفصل بين الدين والسياسة وعلمانية الدولة ومدنيتها.

وتعتبر أن مثل هذه الدولة خارجة عن الإسلام وغريبة عنه واستثناء من الأصل، بل والأكثر من ذلك أن الثورة المصرية بطابعها المتميز السلمي والحشود الكبيرة التي شاركت فيها قد جعلت من مشروع الدولة المدنية مشروعا جماهيريا يتخطى النخبة والصفوة.

وبلا شك فإن تركيز مشروع النهضة ومشروع الثورة على مسألة الدولة وهويتها في المجتمع المصري يكتسب أهمية مضاعفة لأن الدولة في مصر هي مصدر كافة التغيرات التي لحقت بالمجتمع، وهي التي قادت المجتمع وحافظت على تماسكه عبر السنين.

وستظل الدولة مفتاح حل الإشكاليات والمعضلات وفتح أبواب المستقبل أمام المصريين بشرط أن تكون هذه الدولة بمستوى تطلعات المصريين للعدالة والمساواة والكرامة واللحاق بركب العصر والحضارة الحديثة.

 

Email