لبنان يقابل وفاء السعودية بالجحود

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد فقدتُ الأمل حقاً من عودة الحقبة الذهبية للبنان؛ على الأقل ليس خلال وجودي على هذه الفانية. في مطلع السبعينيات، كانت زياراتي المتكررة إلى لبنان حيث كان الناس حينها ودودين ومضيافين، مميّزة دائماً، وهذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى الاستثمار في بيروت ذات الجمال الآخّاذ والتي أَنعَم الله عليها بمزايا كثيرة.

المؤسف أنه في حين يُقدِّر المواطنون الخليجيون كل ما يقدّمه لبنان، ثمة أقلية لبنانية مستعدّة للتضحية بمستقبل البلاد على مذبح الطائفية والكراهية.

لطالما وقفت دول الخليج إلى جانب لبنان في السرّاء والضرّاء. والسعودية على وجه الخصوص صديقةٌ وفيّة للشعب اللبناني؛ العام الماضي، تعهّدت المملكة تقديم ثلاثة مليارات دولار أميركي للحكومة اللبنانية من أجل تحسين قدرات الجيش اللبناني، وأتبعتها بمساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار لمساعدة الجيش على التصدّي لمقاتلي «الدولة الإسلامية».

شكّل لبنان تقليدياً الوجهة التي يقصدها السعوديون وسواهم من عرب الخليج لتمضية العطلة، وتشير بعض التقديرات إلى وجود مئات الآلاف من المغتربين اللبنانيين في السعودية والإمارات وقطر، وعدد كبير منهم يرسلون تحويلات مالية بصورة منتظمة إلى عائلاتهم في لبنان.

إذاً في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد اللبناني من الكساد - تحت وطأة وجود 1.5 مليون لاجئ سوري واحتياجاتهم - وفيما تلقّى قطاع السياحة ضربة قوية بسبب الوضع الأمني غير المستقر في لبنان، قرّر أمين عام «حزب الله»، حسن نصرالله، أن الوقت مناسب ليوجّه أكبر قدر من الإهانات إلى السعودية وشركائها في الائتلاف ضد الحوثيين في اليمن.

وليس السعوديون الوحيدين الغاضبين من هجومه الذي أعيد بثّه عبر التلفزيون الرسمي اللبناني، إنما أيضاً جيرانهم الخليجيون. لا أريد أن أكرّر ما ورد بالضبط على لسان نصر الله. سوف أعيد صياغة تصريحاته.

لقد تصرّف في شكل أساسي على ما هو عليه فعلياً، دمية إيرانية مطيعة، عبر إعلانه بأنه يأمل بأن يُمنى الائتلاف العربي الذي تقوده السعودية في مواجهة الميليشيات الحوثية المتشيعة بالهزيمة، الأمر الذي من شأنه أن يؤثّر، على حد زعمه، في الاستقرار الداخلي في المملكة وفي نظامها الملَكي. ليس سياسياً محنّكاً. إنه مخطئ إذا كان يعتقد أن إهانة السعودية ستسمح لـ«حزب الله» بأن يستعيد شعبيته الآخذة في التراجع.

وقد اعتذر وزير الإعلام اللبناني للسفير السعودي عن نقل المقابلة عبر «تلفزيون لبنان»، حتى أن سياسيين من فريق 14 آذار أصدروا بيانات انتقدوا فيها حسن نصر الله – الحاكم الحقيقي في لبنان - بسبب تجاوزه الحدود.

لكن لا يمكن للاعتذارات، مهما بلغت، أن تمحو الإساءة، وأتخيّل أن عدداً كبيراً من السعوديين سيفكّر ملياً قبل أن يستثمر أو يمضي عطلته في لبنان في المستقبل المنظور. لا يقدّم تلفزيون الدولة في أي مكان آخر في العالم منبراً للميليشيات كي يروّجوا أفكارهم، فما بالكم الميليشيات الإرهابية التي تحرّكها حكومات خارجية!

لكن نصر الله ليس اللبناني الوحيد الذي يوجّه انتقادات للمملكة. يشنّ بعض السياسيين اللبنانيين والمحلّلين المزعومين هجمات متكرّرة على دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية، عبر شاشات التلفزة وفي الصحف. هذه النزعة مشينة وترتدّ على أصحابها، وإذا استمرت فسوف تترتّب عليها عواقب وخيمة على الشعب اللبناني.

منذ سنوات لم أعد أُصدَم بما يفعله «حزب الله»، لا سيما منذ شنّه حرباً مع إسرائيل عام 2006، وقراره الوقوف إلى جانب نظام الأسد الذي يُعتبَر من أكثر الأنظمة همجية في تاريخ الكرة الأرضية. والذي هو وصمة عار لا يمكنه التخلّص منها.

لكنني أقرّ بأنني أشعر بالخيبة من كبار السياسيين المنضوين في فريق 14 آذار الذين تخلّفوا عن اتخاذ إجراءات حازمة لفرض احترام وتقدير السعودية وسواها من الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، الحلفاء الأكبر لفريق 14 آذار والذين يقدّمون له الدعم المادّي.

كيف سيكون شعورهم لو أن القنوات السعودية هلّلت لنصر إسرائيلي عام 2006؟ من واجب فريق 14 آذار أن يحاسب أي سياسي أو أي شخص يسيء إلى الأصدقاء الأقرب إلى لبنان في المنطقة. أنا واثق من أنه يحلو لهم التخفّي حول الحجج بأن «حزب الله» قوي جداً ولا يمكن الوقوف في وجهه أو بأن لبنان يؤمن بمبدأ حرية التعبير.

أولاً، لبنان مجرد ديمقراطية زائفة ما دام «حزب الله» هو الذي يمسك بالدفة، ومَن يدّعون أنهم يحملون لواء حرية التعبير يستخدمون تلك الحجة فقط من أجل تغطية جبنهم. في مختلف الأحوال، كل ما يهدّد عافية لبنان الاقتصادية أو أمنه القومي يجب أن يتقدّم على حق الخونة ذوي الولاءات الفارسية في التعبير بحرية عن آرائهم.

يملك فريق 14 آذار الموارد اللازمة للتحرّك لكن تنقصه الشجاعة أو الإرادة؛ فوزارات الدفاع والداخلية والعدل والإعلام تحت سيطرته - أو هذا ما يدفعنا قادته إلى اعتقاده. حان الوقت ليكفّوا عن دفن رؤوسهم في الرمال وليدافعوا عن الحق.

إذا كانت المناصب التي يشغلونها مجرد مناصب شرفية حفاظاً على المظاهر، يجب أن يقولوا لنا ذلك صراحةً كي لا يهدر رؤساء دولنا وقتهم في التحاور معهم.

على الوزراء والسياسيين اللبنانيين أن يتوقّفوا عن اللعب بحسب قواعد «حزب الله». لقد انتُخِبوا ويحصلون على التمويل كي يدافعوا عن مصالح الشعب ومصالح الجالية اللبنانية في الخليج، ويجب أن يشمل ذلك ردع المخرِّبين الذين يسعون إلى تحقيق مآربهم الخاصة ومنعهم من توجيه الإهانات إلى السعودية أو سواها من دول مجلس التعاون الخليجي.

إلا أنهم يقفون مكتوفي الأيدي ويتفرّجون فيما يرمي أولئك المخرِّبون حجارة في البئر التي يشربون منها. إذا لم يكونوا متيقّظين جيداً، قد يُضطرون في نهاية المطــــاف إلى إيجاد وظائف للبنانيين العائدين من الخليج.

ختام سيستمر هذا الوضع المؤسف؟ متى سيرفض اللبنانيون - سواءً كانوا مسلمين أم مسيحيين أم دروزاً أم أرمن - الإذعان لإملاءات الملالي الذين لا يهدّدون سلامتهم وأرزاقهم وحسب إنما أيضاً هويتهم اللبنانية؟ لا يسعني سوى أن آمل بأن يتجرأوا على رفع الصوت عالياً للتخلّص من هذه الغمامة السوداء التي تقضي على أية فرصة ببزوغ فجر لبناني جديد.

في الانتظار، أترقّب باهتمام بالغ ظهور مؤشّرات تثبت أنهم يرفضون رفضاً قاطعاً إهانة الدول الشقيقة التي لطالما اسقبلتهم بذراعَين مفتوحتين.

Email