اللغة العربية والحفاظ على الهوية الثقافية

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الاهتمام باللغة العربية في أيامنا هذه يؤكد إحساس المسؤولين ومؤسسات المجتمع المدني بأهمية الحفاظ على اللغة العربية وصيانتها. ومن الأمثلة الرائدة في هذا المجال جائزة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد للغة العربية التي تشمل حقولها خمسة فروع هي: التعليم والتكنولوجيا والإعلام والتعريب والتراث، وتتضمن عشر فئات في فروعها الخمسة. لتؤكد هذه الجائزة ما تعانيه لغتنا القومية من تحديات يمكنها أن تؤثر في الهوية العربية.

ومن ثمَّ بات الحفاظ على الهوية الثقافية في ظل سطوة المعلوماتية والغزو الإلكتروني هماًّ لدى شعوب العالم الثالث والوطن العربي خصوصاً. ويرجع الإحساس بتهديد ثقافتهم مع وجود سطوة المعلوماتية واتساع الفجوة المعرفية والتكنولوجية بينهم وبين الغرب إلى عدة أسباب: فهذه الشعوب تعاني من نسب أمية عالية، من ثم فقدرتها على إنتاج المعلومات والمعرفة محدودة. وتعاني هذه الشعوب من فقر وإمكانيات اقتصادية متواضعة، ومن ثم فإنها لا تمتلك التكنولوجيا الاتصالية المناسبة.

وتعاني هذه الشعوب من تدفق الاتصال باتجاه واحد من دول الشمال إلى الجنوب، مما لا يعطي هذه الدول قدرة على صد فيضان المعلومات التي تصلها عبر أشكال الاتصال المختلفة، ولا توفر فرص التفاعل المتبادل بين شعوب العالم. ولذا، فإن ما نعانيه في الوطن العربي خصوصاً يمثل معضلة تاريخية، مرتبطة دوماً بحدود إمكانيات من يملك ومن لا يملك، ومن لديه القوة ومن لا يمتلكها، وتصبح سطوة الغازي وقوته لها تأثيرها في المغزو، لتؤكد ما ذكره ابن خلدون في مقدمته حول تَشبُّه المغلوب بالغالب.

وهذا الأمر لا يعني أن تمرير أجندات الثقافة الغازية أمر سهل. فنحن نتحدث عن هويات ثقافية للشعوب تمتد جذورها آلاف السنين تلك التي نحتت هوية شعوبها وصقلتها. وإذا كان هناك تهديدات للهوية الثقافية العربية لكنها لا تصل إلى محو هذه الهوية، فالهوية العربية لها آلياتها التي تدافع بها عن نفسها، وخصوصاً مع وجود بُعدها الروحي كلغة للقرآن الكريم.

وتاريخ اللغة العربية هو تاريخ على الانفتاح والتفاعل المبني على العطاء المتبادل مع الثقافات الأخرى. والقرآن الكريم خير مثال على ذلك، فالكلمات الأعجمية التي وردت فيه والتي ليست ذات أصل عربي كثيرة. ومع ازدهار الترجمة في العصرين الأموي والعباسي، ومع اختلاط العرب بالشعوب المختلفة التي دخلت الإسلام لتشكل أمة واحدة، فإننا نجد ذلك التفاعل المدهش للغة العربية باللغات الأخرى.

مما أثرى معجمها اللغوي بإدخال مفردات أجنبية إلى اللغة العربية، والذي يقرأ ترجمات القدامى لكتاب الشعر لأرسطو يمكنه أن يكتشف عدم التحرز لدى القدامى من استخدام المفردات الأجنبية التي لا مقابل لها في العربية، وتعريبها لتكون جزءاً من المعجم اللغوي العربي. وأخالني لا أجافي الحقيقة إذا قلت إن العطاء المتبادل بين اللغة العربية واللغات الأخرى مثل الفارسية والتركية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية هو تفاعل باتجاهين، فالمفردات العربية تسللت إلى تلك اللغات، كما أن اللغة العربية استفادت من تلك اللغات بإثراء معجمها.

وأرى أنه لا ضير في الانفتاح على مفردات جديدة من اللغات الأخرى في مجال المستحدثات العلمية والتكنولوجية. لأن مثل هذه المفردات لا تشكل أداة الوعي، مثل ما تصنعه المفردات التي تعبر عن الوجدان والتفاعل مثل الأفعال والمصادر في اللغة. ولذا فنحن بحاجة إلى الانفتاح، وليس هناك من يستطيع أن يمنع لغة ما من التفاعل مع معطيات الحياة المتطورة.

وينقصنا الآن وجود معجم تاريخي للغة العربية يُبين تطور الدلالات للمفردة في مراحلها التاريخية المختلفة، ويكون هذا المعجم ملتزماً بإدخال المفردات الحديثة التي تدخل اللغة العربية نتيجة التفاعل مع اللغات الأخرى وما تنتجه الحضارة المعاصرة.

Email