تجليات «أهرامية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتفل الأهرام مساء اليوم بمناسبتين؛ الأولى: مرور 140 عاماً على صدوره، والثانية: بداية المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي يعقد في سيناء ليدشن الأساس الاقتصادي لمصر الجديدة، وبعد عشر سنوات من الآن ـ يا ترى من سيكون على قيد الحياة؟ ـ سيحتفل الأهرام بمرور قرن ونصف القرن على العدد الأول الذي صدر منه ليصبح من أقدم الصحف في العالم. إن لم يكن أقدمها.

أول مرة ذهبت إلى الأهرام كان في مبناه القديم في شارع مظلوم بباب اللوق. تاهت من الذاكرة مناسبة الذهاب، لم أكن معنياً بتدوين شيء مما يجري لي في تلك الأيام البعيدة. وذاكرة الريفي التي حباني الله بها لم تكن في أحسن حالاتها مع أيام الدهشة الأولى في القاهرة.

لكن يبقى في ضباب التذكر وقبل غول النسيان أنني رأيت غالى شكري يقف أمام مكتب خرج منه لطفي الخولي. تعبت كثيراً لكى أتذكر مناسبة الذهاب. ولمقابلة من؟ وما هي الحاجة التي دفعتني للمشوار؟ لكن المؤكد أن ذلك وقع في فترة تجنيدي في القوات المسلحة، وقبل صدور روايتي الأولى: الحداد. التي صدرت في أواخر سنة 1969.

قبل المجيء للقاهرة عندما كنت في قريتي. وبعد أن بدأت أمي ـ يرحمها الله رحمة واسعة ـ تقتطع من مصروف البيت من وراء ظهر والدي ما يمكنني من شراء جريدة. لم أناقشها في حرصها على ذلك. لكنه شكَّل بداية العلاقة بالحرف المكتوب.

لاحظت على بائع الصحف وكان يحمل أعداداً قليلة، ويبدأ في المرور وقت الظهر لأنه يحضرها إلى قريتنا من البندر القريب يوم الجمعة، كان يمر بعد صلاة الجمعة مباشرة. ولا أنسى أبداً في هذا اليوم أنه إن كتب الأستاذ هيكل ـ كان ينطقه هيكل فقط ـ ينادى هيكل بصراحة: يا أهرام. وإن اعتذر هيكل عن الكتابة فكان يخبر الناس بأن هيكل اعتذر. وكأن الاعتذار يساوي الكتابة. لأن الناس كانت تريد أن تعرف لماذا اعتذر؟ كما كانت تريد قراءة ماذا كتب؟.

في عدد الجمعة الأهرامي كانت مقدمة مقال هيكل تنشر في الصفحة الأولى، والمقال ينشر في الصفحة الثالثة من الملحق الأسبوعي الذي كان يحدد لنا ترمومتر الحياة السياسية والثقافية في مصر. وفى هذا الملحق قرأنا لنجوم الكتابة في ذلك الزمان البعيد.

روايات نجيب محفوظ، مسرحيات توفيق الحكيم، شعر صلاح عبدالصبور، مقالات لويس عوض، تحليلات حسين فوزي للموسيقى ورحلاته وشطحاته. أستطيع أن أؤكد أنه ما من حرف كُتِب في تلك السنوات إلا وعرف طريقه للنشر في الأهرام. بصرف النظر عن موقفه من دولة عبدالناصر: مديحاً أو انتقاداً أو هجوماً. لأن فكرة النشر في بيروت لم تكن قد عرفت بعد.

ومنع الأعمال الأدبية لم نعرفه إلا في فترات لاحقة.

لكل جريدة أو مجلة رئيس تحرير يؤثر في مسيرها ومسارها، بصرف النظر عن الفترة التي تولى رئاسة تحريرها. والأهرام تعنى هيكل، ليس لأنه أسس مبناها الحالي ولم يحصل على مليم واحد من الدولة بجهود ذاتية.

وافتتح المبنى بعيداً عن الدولة عندما اصطف العاملون في طابور ابتداء من عمال المطابع. وانتهاءً بالإدارة، مروراً بالعامود الأساسي في أي صحيفة، ألا وهم الصحافيون والكُتّاب.

وقاموا بافتتاح المبنى. عبد الناصر «وهو من هو» لم يفتتح الأهرام. بل زاره بناء على طلبه ليلتقى بكُتَّابه ومفكريه وصحافييه.

حتى صفحة وفيات الأهرام كانت الأكثر تميزاً في الصحافة المصرية. كنت أرى نجيب محفوظ يأخذ الصحف صباحاً إلى مقهى ريش بعد إحالته للمعاش لقراءتها. وكان يتوقف طويلاً أمام صفحة الوفيات وبيده ورقة بيضاء وقلم ليدون أسماء وعناوين من سيكون حريصاً على مشاطرتهم العزاء.

قال لي عبارته التي صارت مثلاً: من لم ينشر له نعى في الأهرام لا يكون قد توفي إلى رحمة ربه.

ولا أنسى أنني قرأت قصيدة جميلة لحد العذوبة للشاعر الجميل صلاح جاهين عن صفحة وفيات الأهرام. أصبح الأهرام حلماً لكل مثقف أن ينشر نتاجه الأدبي فيه.

وللحقيقة والتاريخ أقول إن الوحيد الذي قاوم سحر هذا الحلم كان يحيى حقى. خشي الرجل من جماهيرية الأهرام واتساع رقعة قرائه، ولذلك اتجه لنشر مقالاته في جرائد غير منتشرة كالمساء أحياناً.

والتعاون في أحيان أخرى. خشية يحيى حقى لها جانبها الإيجابي أهرامياً. فسطوة توزيع الأهرام ونفوذه وانتشاره ووصوله لكل مكان في بر مصر جعلت الرجل يحمل كلماته لصحف أقل توزيعاً من الأهرام. لشدة إحساسه بمسؤولية ما يكتبه.

أصبحت كاتباً للمقال في الأهرام عندما استكتبني أسامة سرايا. وكان أول مقال عنوانه: «أربعين» نجيب محفوظ. أي أنه كان في سبتمبر 2006. ولكن خلال سنة حكم الإخوان البغيضة - لا أعادها الله مرة أخرى ـ جاء رئيس مجلس إدارة وجاء رئيس تحرير ومنعاني من الكتابة كما منعا غيرى من المغضوب عليهم من قبل الجماعة. ولم أستأنف الكتابة إلا بعد ثورة الشعب المصري عليهم ورفضه لاستمرارهم وتطهير مصر منهم.

كل سنة والأهرام: الجريدة والمؤسسة والناس والقُراء والدور الإعلامي والمجتمعي بخير.

 

Email