جنون الفستان

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحت هذا العنوان نشر موقع «CNN بالعربية» الأسبوع الماضي تحقيقاً حول الجدل الذي أثاره الفستان الذي حيرت ألوانه العالم، فرآه البعض باللونين الأبيض والذهبي، بينما رآه آخرون باللونين الأزرق والأسود اللذين هما لوناه الحقيقيان. الجدل بين المغردين والفيسبوكيين حول ألوان الفستان جذب نحو 73 مليون مشاهدة منذ تحميله، حسب ما أعلنه موقع التواصل الاجتماعي «تمبلر».

والنتيجة انعكست على مبيعات متجر «رومان» للأزياء الذي يقع في بريطانيا، من خلال ارتفاع عدد المشترين للفستان في المتجر وعبر الإنترنت، الأمر الذي جعل القيمين على المتجر يفكرون في صنع نسخة من الفستان باللونين الأبيض والذهبي.

أما البداية فكانت من قبل مستخدمة لموقع «تويتر» في اسكتلندا، نشرت الصورة بعد شراء الفستان من أحد محال الشركة لحضور زفاف وأرسلتها لصديقتها، ما أثار الجدل بينهما حول ألوان الفستان.

«جنون الفستان»، من وجهة نظري، يصلح لأن يكون اسماً لمرض يعاني منه البشر جميعاً، ربما يكون أخطر من عمى الألوان الذي عزا البعض إليه الجلبة التي أحدثها الفستان، قبل أن تحسم الأمر مديرة قسم طب العيون في مستشفى «ويلز» بمدينة «فيلادلفيا» الأميركية، فترجع الأمر إلى المخاريط الصغيرة التي تقع في مؤخرة العين البشرية، والتي تتلقى الألوان بشكل مختلف قليلاً، بحسب الجينات البشرية.

المرض الذي أعنيه هنا هو نظرتنا إلى بعض الأمور التي نعتقد أنها بديهية، ثم نكتشف أن هناك من تختلف نظرته إليها عنا، فيراها بشكل مغاير تماماً لما نراها نحن عليه، ويحتدم الجدل حولها كما احتدم حول ألوان الفستان، مع اختلاف المستفيدين من هذا الجدل والخاسرين منه.

حضرت خلال الفترة الأخيرة العديد من المحاضرات والندوات التي يدور الحديث فيها عن الإرهاب والفكر المتطرف، وشاركت في بعضها، وقرأت الكثير من المقالات حول هذا الموضوع، وكتبت بعضها، وتابعت الكثير من البرامج الحوارية في الإذاعة والتلفزيون حتى كدت أحفظ أسماء المتحدثين والمتداخلين، والمستمعين والمشاهدين أيضاً.

وبعد هذا كله، أحسست أننا كمن يقف أمام المرآة ويخاطب نفسه، فالذين يحاضرون في هذه الندوات والمحاضرات والذين يحضرونها، والذين يكتبون هذه المقالات والذين يقرؤونها، والذين يشتركون في هذه البرامج والذين يستمعون إليها أو يشاهدونها، هم أصحاب الرأي الذي يتفق على نبذ الفكر المتطرف، ويسمي ما يمارسه المتطرفون إرهاباً، أما الذين نسميهم نحن أصحاب فكر متطرف فهم لا يحضرون هذه الندوات والمحاضرات، ولا يقرؤون هذه المقالات، ولا يستمعون ولا يشاهدون هذه البرامج، بل إنهم لا يعترفون أصلاً بأنهم متطرفون ولا إرهابيون كما نراهم نحن.

يبدو لي أن هذا عرض لمرض لا يختلف كثيراً عن «جنون الفستان» الذي أثارت ألوانه الجدل حولها، لكن أسبابه لا تكمن في المخاريط الصغيرة التي تقع في مؤخرة العين البشرية، وإنما تكمن في المخاريط التي تقع في الرأس، والتي تتلقى الأفكار بشكل مختلف، حسب البيئة التي نشأ فيها الفرد، وليس الجينات البشرية، وحسب العوامل الخارجية التي أسهمت في تكوين شخصيته، ودفعته إلى هذا الاتجاه الذي نراه نحن منحرفاً ويراه هو صحيحاً، ونراه نحن باطلاً ويراه هو حقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قبل أيام أرسلت إدارة الأمن القومي الأميركية ومكتب التحقيقات الفيدرالي تحذيراً للسلطات الأمنية، حول القلق المستمر من زيادة ميول الشباب من الجنسين للقتال والانضمام إلى «داعش».

وقال مصدر أمني إن هذا التحذير يأتي على خلفية اعتقال مراهق يبلغ من العمر 17 عاماً من «فيرجينيا الشمالية». هنا يصبح أي حديث نتداوله في هذه المحاضرات والندوات والبرامج الحوارية والمقالات عن جذور التطرف والإرهاب، حديثاً قابلاً للاختلاف والجدل حول لونه، تماماً مثلما اختلف الناس وتجادلوا حول لون الفستان، فاستفاد من هذا الجدل المتجر الذي صنع الفستان وباعه، ولم يخسر أحد شيئاً، بينما المستفيدون هنا هم أصحاب الفكر المتطرف، الذين يسوّقون له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أما أكبر الخاسرين فهم نحن الذين ما زلنا نتحدث أمام المرآة، وهذه الدول التي تخسر فتياتها وشبانها الذين تجتذبهم الجماعات ذات الأفكار المتطرفة، وتلك الدول التي تدور على ساحاتها هذه المعارك، فتحرق أرضها، وتدمر بنيتها، وتشرد أهلها، وتحولهم إلى لاجئين داخل بلدانهم وخارجها، يبحثون عن مخيمات تؤويهم، ليحموا أطفالهم من الموت جوعاً وبرداً ومرضاً.

هذا الجنون الذي يجتاح العالم، ويضرب بصيرته، أخطر من أن تعالجه محاضرة أو ندوة أو برنامج حواري أو مقالة. ليس انتقاصاً من الذين يشاركون في هذه المحاضرات والندوات والبرامج الحوارية، ولا من الذين يكتبون هذه المقالات، وإنما لأن الذين يصيبهم هذا الجنون غير معنيين بكل هذا، ولا يستمعون إليه، وإذا استمعوا إليه لا يبالون به، لأنهم يكفّرون أصحابه، ولو ظفروا بهم لما كان مصيرهم أفضل من مصير أولئك الذين ذبحوهم أو أحرقوهم، ونشروا مشاهد ذبحهم وحرقهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

«القاعدة» و«داعش» و«الإخوان المسلمون» و«النصرة» و«حزب الله» و«أنصار الله» وغيرها، جماعات وتنظيمات يختلف الناس على ألوانها في جنون، كما اختلفوا على ألوان الفستان الشهير، لكنه جنون مدمر، أسال الكثير من الدماء، وأزهق الكثير من الأرواح، وزج بفتيات صغيرات وشبان مراهقين في أتون حرب مجنونة، الاستفادة منها محصورة في تجار الحروب، والخسارة فيها تعم البشرية كلها، فهل نأمل أن نتحول من أمام المرآة إلى الوجهة الصحيحة التي يجب أن نقف فيها؟

Email