داعش... عدو الثقافة والحضارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحرب ضد تنظيم داعش الظلامي حرب «حضارية» بكل معنى الكلمة، فهو تنظيم معادٍ للإنسان وللحياة، يفكر ويتصرف المنتسبون إليه بعقلية تنتمي إلى حقبة ابتعدت عنا مسافة زمنية طويلة.

هذا التنظيم لا يكتفي في الحروب التي يخوضها باستهداف خصمه وقطع خطوط إمداداته وقتل من يأسره، بل يتجاوز ذلك لتشمل مظالمه المدنيين وممتلكاتهم، وقد وصلت همجيته إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو تدمير المعالم الثقافية والحضارية للمدن التي يحتلها.

لسنا بصدد المقارنة بين بشاعة قتل الإنسان، وبشاعة تدمير معالمه الثقافية، فهذه المعالم ليست أكثر قيمة من حياة الإنسان، إلا أن لها من جانب آخر قيمة من نوع خاص لا تقدر بثمن، فتدميرها لا يتوقف عند تدمير حياة فرد أو أكثر، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما يتعلق بهوية الإنسان وتأريخه.

فالمعالم الثقافية من فنون وآداب وعلوم إنسانية، تكسب الحياة نكهة ورونقاً تخفف من قساوتها، وتحول دون تحول الإنسان إلى مجرد أداة للإنتاج البضاعي.

حين تشهد مدينة تدميراً لدور العرض المسرحي والسينمائي والمواقع الآثارية والنصب والمكتبات والمتاحف والمعالم الدينية والرموز التي لها حضور في ثقافتها وتأريخها، فالمدينة تواجه حرباً على الثقافة وعلى الهوية، وعلى كل ما من شأنه أن يبقي للإنسان ملكة الفكر والنقد، فهذه المعالم الثقافية هي التي تكسب المدينة هويتها المميزة.

دأب تنظيم داعش على توثيق همجيته ونشر فظاعاته، في قطع الأعناق وحرق الأحياء وحفر المقابر الجماعية، على أوسع نطاق، كجزء من استراتيجيته الإعلامية في أشرطة فيديوهات يخرجها بطرائق هوليوودية، وها هو يضيف جديداً إلى همجيته حين ينشر شريط فيديو يوثق فيه واحدة من جرائم العصر، يظهر فيه مجموعة من متوحشيه يحملون المطارق والمعاول الضخمة.

ويحطمون النصب والتماثيل في متحف الموصل، ثاني أكبر المتاحف في العراق، والذي تضم مقتنياته نفائس ترجع إلى العصر الآشوري، الذي يشكل حقبة مضيئة من تأريخ المدينة وتأريخ العراق ترجع للقرن التاسع عشر قبل الميلاد.

إن المعالم الثقافية التي دمرها تنظيم داعش ليست ملكاً للعراق وحده، بل هي ملك البشرية كلها، نظراً لما لها من طابع حضاري وتأريخي يرتبط بحقبة مهمة من التأريخ، لذلك، ليس من المستغرب أن تسارع منظمات عالمية، وعلى رأسها اليونسكو، التي أصيبت بصدمة قوية وهي تشهد هذا الفيديو، إلى الطلب من مجلس الأمن الدولي عقد جلسة خاصة واتخاذ قرارات لحماية الآثار من السرقات والتدمير.

للمتاحف أهمية خاصة في حياة الإنسان، فمهامها لا تقتصر على حفظ الآثار المادية التي تركها السلف وحمايتها بطرائق علمية من التعرض للتلف، بل تتجاوز ذلك إلى القيام بإعداد الدراسات العلمية للتعرف إلى معاني هذا التراث وعلى نشأته وصلاته بتراث أمم أخرى. وفي سياق دراسات كهذه، تولد قيم ومشتركات إنسانية أخلاقية تتجاوز صيرورة الحدود الجغرافية بين الدول لتتناول صيرورة الإنسان نفسه.

كما أن للمتاحف مهام تعليمية وتربوية مساندة للمؤسسات التعليمية لا تقل أهمية عن مهامها العلمية، فإضافة إلى المتاحف التي تعنى بالآثار، هناك متاحف للتأريخ الطبيعي والتطور التكنولوجي ولشتى أنواع الفنون. هذه المتاحف تضم مكتبات ووثائق لا يستغني عنها الباحثون، ومن هذا المنظور فهي تسهم في عملية التنمية في المجتمعات.

وقد حرصت منظمة الأمم المتحدة، انطلاقاً من مهمتها الأساسية في ترسيخ لغة الحوار، كوسيلة لحل الخلافات الدولية على جعل العلم والثقافة أدوات للحوار لتحقيق السلام بين الشعوب، على إشراك المتاحف في إيصال رسالتها من خلال منظمة اليونسكو التي تعنى بالتربية والثقافة والعلوم.

لأن هذه المتاحف أدوات هامة لتوثيق الصلات وإدامة الحوار بين الحضارات لصياغة رؤية توسع من المشتركات بينها، وتعمل على تحقيق تنمية ثقافية تسهم في التخفيف من الاحتقانات السياسية بين الدول.

ونظراً لوجود الآلاف من المتاحف في جميع أرجاء العالم، تعنى بجمع وعرض الأشياء ذات القيمة العلمية أو الفنية أو ذات الأهمية التأريخية، وجعلها متاحة للجمهور من خلال معارض مؤقتة أو دائمة، ولأجل التواصل والتنسيق بينها، أنشأ عام 1946 المجلس الدولي للمتاحف، الذي توصل إلى صياغة تعريف لمعنى المتحف ومهامه، مفاده «أي مقر دائم من أجل خدمة المجتمع وتطويره مفتوح للعامة، ويقوم بجمع وحفظ وعرض التراث الإنساني وتطوره لأغراض التعليم والدراسة والترفيه».

والمجلس هذا منظمة دولية تقيم علاقات رسمية مع منظمة اليونسكو، في إطار الأمم المتحدة، وقد جرى الاتفاق على اعتبار الثامن عشر من مايو يوماً عالمياً للمتاحف، يحتفل به كل عام، وذلك لإتاحة الفرصة للمختصين بالمتاحف من التواصل مع الجمهور من أجل تعزيز دورهم في التفاعل مع الحياة كمؤسسات في خدمة مجتمعاتها.

حرص تنظيم داعش على تنفيذ جرائمه بحق الثقافة والتراث بشكل مبرمج منذ اجتاح مدينة الموصل في العاشر من يونيو المنصرم، حيث دمر عشرات الجوامع والكنائس والمراقد والأضرحة وتماثيل الشعراء والموسيقيين، وجزءاً من سور نينوى، وحرق الوثائق والمخطوطات، إلا أنه لم يجنِ من تلك العمليات مغانم مادية.

على خلاف تدمير المتحف، فهو قد حطم النصب والتماثيل التي يصعب سرقتها ونقلها، على خلاف بقية النفائس التي ضمها المتحف، فمنظروه يرون أنها غنائم حرب، يحل بيعها، أما التماثيل الكبيرة التي لم يستطيعوا نقلها وبيعها، فوجودها.. شرك وكفر.

 

Email