عن الإنسان المتسامي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن القول بوجود نمطين أساسيين للشخصية الإنسانية: أولهما يمكن وصفه بـ«التسامي»، إذ تتحقق فيه المثل العليا والفضائل الأرقى التي ترتبط بالإنسان باعتباره الكائن الأرقى في الوجود، مركز المعنى والقيمة الذي يدور حوله العالم.

وثانيهما يمكن وصفه بـ«الوظيفي»، يغترب فيه الإنسان عن نفسه، ويتحول تحت ضغط نزعاته الدنيوية إلى مجرد «شيء» يؤدي وظيفة في الحياة، ويتحرك في فلك هذا العالم. أما الشخصية المتسامية، موضوعنا اليوم، فتعكس ما يليق بالروح الإنسانية كما ترسم معالمها الأديان السماوية، اتفاقاً مع وضع الإنسان كخليفة لله في الأرض.

أو تجسدها الفلسفات الحديثة باعتبارها ذاتاً متعالية (ترانسندنتالية)، تعي نفسها والعالم من حولها، يُحركها طموح لا ينتهي إلى إدراك المعرفة الأعمق، والأخلاقية الأكمل، وذلك عبر تنمية ملكاتها الأساسية كالعقل والإرادة والضمير والروح، لتمارس من خلالها نشاطاتها الأرقى من قبيل الإيمان والحب والمعرفة والفن.

فالإيمان وسيلة مثلى لإنماء العوالم الداخلية للإنسان وحفظ توازنه في الكون، حيث المرجعية الإلهية المتسامية تستخرج من الإنسان أنبل ما فيه، وتبثه ضميراً خلقياً مريداً للخير هياباً للشر، مدفوعاً إلى الحق، رافضاً للظلم الذي لا يمكن له أن يكون ضمن ملكوت الله. فإذا ما غاب ذكر الله غاب الضمير وذبل معنى الأخلاق، ما يعني افتقاد الإنسان للمرجعية الكبرى التي تمنحه الدلالة والمعنى.

وهذا ما يجعل من العلمانية (الوجودية) التي تفصل بين الإنسان والمرجعية الإلهية، موقفاً عدمياً يستحيل معه الإنسان، على حد وصف الفيلسوف مارتن هيدغر، مثل زهرة تنمو وتزهر ثم تذبل بلا أي مغزى، فالزهرة تذهب دون معنى لحياتها، والإنسان يرحل دون تساؤل عن الغايات الكبرى لوجوده.

أما الحب فهو ثاني أعمق المحاولات الإنسانية نجاحاً، بعد الإيمان، للخروج من كهف الوحدة وأسر الذات الفردية وكآبة الاغتراب، إلى فضاء الحميمية والتعاطف مع الآخرين من كل جنس ووطن ودين.

فالقيمة الأخلاقية الكبرى للحب هي أنه يدفعنا للتعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية، وليس كمجرد موضوعات أو أشياء كما يفعل غير المحبين. ولذا كان الحب دوما فعلاً أخلاقياً وسلوكاً نبيلاً، يقدره البشر حتى أولئك الذين لم يمروا بتجربة العشق، لأن ثمة شعوراً لديهم بأن هناك، في صدور المحبين، يقبع شيء جميل جداً، وخير حقاً.

وأما المعرفة فهي ملكة فائقة يستبطنها العقل الإنساني، فتمنحه القدرة على الكشف والتعلم، وعلى التطور والترقي. والأهم من ذلك أنها ـ إذا ما خلُصت من شوائب المادية والغرور الوضعي ـ تمنحه وعياً عميقاً بحدود طاقاته، وبالإمكانيات الكامنة في بشريته، وكذلك العوائق الكامنة في بيئته وعالمه.

وهنا تكتسب العقلانية النقدية، وريثة التنوير الأوروبي في صورته الرائقة، والتي يمكن أن ندرج فيها عقلانية الإسلام (الكونية)، ميزة كبرى؛ كونها توازن بين «الفعالية» و«الخيرية»، أي ما بين التوصل إلى المعرفة وبين حسن استخدامها، كما تربط بين الوسيلة والغاية، ولذا تعنى بالنية التي لا تحفل بها الوضعية المتطرفة في ماديتها، والتي تنهض على المبدأ النفعي القائل إن الغاية تبرر الوسيلة.

وأخيراً يأتي الفن كملكة تبث الإنسان قدرته على التعرف إلى نفسه، بتذوق المعاني الأعمق في سيرنا البشري الطويل. فالفنون، على تعدد أشكالها وتباين مستوى الإبداع فيها، تعكس قدرة مبدعها على رصد وتكثيف المعاني الإنسانية التي توصلنا إليها في ثقافاتنا المختلفة، سواء تلك التي اكتشفناها من تجاربنا الخاصة التي مارسناها على ظهر الأرض، أو تلك التي استلهمناها من معتقداتنا وأسرارنا المقدسة المنزلة علينا من قبة السماء. ف

في كلا المصدرين ثمة مُثل تجمعنا وفضائل تلهمنا ومعان نهائية نجمع عليها، يصوغها الفن في لوحات تشكيلية ومقطوعات موسيقية وكتل نحتية، لا تخلب أبصارنا وتشجي آذاننا فقط، بل تضعنا دوماً وبشكل كثيف أمام حقيقتنا الإنسانية، في سياق جمالي غير وعظي، يطلق أعمق تخيلاتنا.

مثل هذا الإنسان المدعم بكل أو بعض ملكات التسامي، يبدو غنياً جداً وقوياً جداً، وإن لم يكن حائزاً لثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله لا من المحيطين به، وقوة حضوره تتركز في ذاته وليس في مراكز الضغط التي تحيط به، ولذا لا يمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئاً كبيراً لديه أو عزيزاً عليه، فيما هم لا يرونه ولا يمكن أن يلمسوه.

كما أن موارد القوة والثراء لديه لا تخضع لقواعد السوق، أي العرض والطلب، لأنها لا تخضع أصلاً للقانون الاقتصادي الشهير «الثمن»، والذي يحدد ثمن الأشياء بـ«فرصها البديلة»، أي بما أهدر في صناعتها من موارد كان من الممكن استخدامها في صناعة شيء بديل، ذلك أن موارد التسامي لدى الإنسان غير قابلة للنفاد، بل إنها، على العكس، تتراكم بإنفاقها، فكلما زاد توزيعها على الناس تنامت عند صاحبها وعند الناس معاً. فالإيمان الروحي العميق، إذ يعبر عن نفسه أخلاقياً، إنما يسهم في تنمية الفضيلة بين الناس دون أن تنقص فضيلة المؤمن الأول ذرة واحدة.

وهكذا القدرة على بذر الحب، التي تشحن روح الشخص المحبوب بطاقة عاطفية هائلة دون أن تقلل من طاقة المحب، بل تزيد منها عندما تنتشى بأثرها فيمن يحيطون بها، ولذا يقال في المثل إن الحب كالعدوى. وهكذا حال المعرفة، إذ تنمو من الفرد لتصنع حلقة علمية ومدرسة فلسفية حول العالم/ الفيلسوف، الذي يطلقها فإذا به يجد من يحاورونه فيلهمونه بالجديد من الأفكار لتطوير علمه/ فلسفته.

ومثلها التذوق الفني، فالفنان إذ يكتشف الجمال ويدعو الآخرين إلى تذوقه، تزداد قدرته هو على التذوق، بما يشيع حوله من مناخ يشجعه ويلهمه.

وهكذا نجد أن النشاطات الجوهرية لدى الإنسان، كالإيمان والحب والمعرفة والفن، التي تنهض بها ملكاته الأساسية الأربع: العقل والروح والضمير والإرادة، إنما تزدهر بالاستخدام الأول لها، سواء لدى من يطلقونها فتعود إليهم، أو لدى من يحسنون استقبالها فتشيع بينهم.

Email